لم تدم المكابرة الإيرانية طويلاً منذ إعادة فرض العقوبات الأميركية على طهران. قام الرهان الإيراني في جزء منه على محاولة استقطاب أوروبا، وزرع الشقاق على ضفتي الأطلسي، والتلاعب بالمصالح الاقتصادية والسياسية المختلفة لمجموعة «5+1». لم يكن كل هذا الرهان رهاناً دعائياً، بل توفرت له مرتكزات واقعية؛ منها رغبة أوروبية جادة في الحفاظ على الاتفاق النووي، وصلت إلى حد السعي المستمر حتى الآن لإيجاد «آلية سداد»، تتيح للسلطات الإيرانية تجاوز العقوبات الأميركية والاستمرار في مبيعات النفط والتمتع بعائداتها. سرعان ما تبين أن الحكومات الأوروبية غير قادرة على جرّ القطاع الخاص لمغامرة التعامل مع إيران تجارياً وتجاهل محاذير العقوبات الأميركية؛ إذ اختارت شركات النفط والنقل والتأمين والمصارف وغيرها من المؤسسات الاقتصادية والمالية والتجارية الكبرى، الانسحاب من السوق الإيرانية، تفادياً لأي مخاطر قد تهدد وجودها وتعاملاتها مع السوق الأميركية، ومن خلالها مع الأسواق العالمية.
أما تبجح إيران بالإعفاءات التي منحتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لثماني دول من كبار مستوردي النفط الإيراني؛ من بينها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، واعتبار هذا الإجراء هزيمةً أميركية وإفلاساً لسياسة إعادة العقوبات، فسرعان ما تبين أنه لا يمت إلى الواقع بصلة. فرغم الإعفاءات، التي تتيح لكبار مشتري النفط الإيراني التعامل مع طهران من دون الخشية من تأثرهم بمفاعيل العقوبات الأميركية، فإن بيانات قطاع النفط أشارت إلى أن صادرات إيران من الخام ستتقلص بشدة للشهر الثالث على التوالي في يناير (كانون الثاني) الحالي، مما يعني أن السلطات الإيرانية تواجه صعوبات في إيجاد مشترين في ظل العقوبات الأميركية الجديدة حتى من بين معظم من حظوا بالإعفاءات. وقد عادت الصادرات إلى ما كانت عليه خلال الجولة السابقة من العقوبات في الفترة من عام 2012 إلى عام 2016.
فأثر العقوبات لا يقاس فقط بالمعايير الكمية لبيع النفط وشرائه، بقدر ما يقاس بالمناخ المضطرب الذي تخلقه العقوبات فيدفع رؤساء مجالس إدارة كبريات الشركات المستوردة، والمنوط بهم اتخاذ قرارات كبرى حول الخطط المستقبلية لهذه الشركات وحماية القيمة السوقية لأسهمها، للبحث عن مصادر أكثر ثباتاً لحاجاتها النفطية.. تحتاج هذه الشركات إلى أن تضمن القدرة على توقع حال الأسواق والإنتاج وبالتالي بناء استراتيجيات سوقية على عوامل أكثر ثباتاً مما يتيحه واقع السوق النفطية الإيرانية.
الانهيار المزدوج للرهان الإيراني على مخارج أوروبية وآسيوية تلتف على العقوبات الأميركية، يتزامن مع تصاعد في حدة الاشتباك السياسي مع إيران. فرغم شهر العسل الإيراني – الأوروبي الذي أعقب خروج الرئيس ترمب من الاتفاق النووي، فإن طهران فوجئت بعقوبات فرضها الاتحاد الأوروبي على أجهزة الاستخبارات الإيرانية، بعد اتهامها بالضلوع في عمليات اغتيال معارضين إيرانيين في هولندا والدنمارك وفرنسا، وسط ترحيب أميركي ملحوظ.
ومن المتوقع أن تزداد العلاقات الأوروبية – الإيرانية تعقيداً في ضوء توجه إيراني للعودة إلى تخصيب اليورانيوم خلافاً لمنطوق الاتفاق النووي والقرار الأممي «2231»، مما يعني أن أوروبا ستكون أكثر حرجاً في الاستمرار في الاتفاق، والدفاع عن جدواه، في حين سيكون الموقف الإيراني أكثر انكشافاً. وإذا كانت التصريحات الإيرانية عن عودة التخصيب تنسجم مع مزاج التحدي الدائم الذي تعبر عنه إيران، فإن من نتائجها الجانبية الخطيرة، زيادة عزلة إيران في وقت اقتصادي عصيب عليها وفي لحظة أميركية تتسم بالتشدد السياسي وبالنشاط لتجميع أكبر عدد من الدول ضد طهران.
ليس أدل على ذلك من الجولة الشرق أوسطية التي أعلن في خلالها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن قمة ستعقد في وارسو؛ بولندا، وتضم نحو 70 دولة، يومي 13 و14 فبراير (شباط) المقبل، وستركز على الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط، وبين أهدافها «ألا يكون لإيران تأثير مزعزع للاستقرار»، في حين تميزت تصريحات بومبيو الشرق أوسطية جميعها، لا سيما خطاب القاهرة، بالتركيز على مواجهة إيران وسلوكها في الإقليم.
زاد من قتامة اللحظة الإيرانية الراهنة كشف صحيفة «وول ستريت جورنال» عن أن البيت الأبيض طلب من القيادة العسكرية في البلاد تقديم خيارات لضربات ضد إيران، إثر الاشتباه بقيام ميليشيات موالية لإيران في سبتمبر (أيلول) الماضي بقصف المنطقة الخضراء في بغداد حيث مقر السفارة الأميركية.
وإذا كان إعداد العسكريين خططاً للبيت الأبيض نشاطاً اعتيادياً، فإن الكشف عن هذا الطلب ينطوي على رسالة لا تخطئها العين للقيادة الإيرانية، بشأن جدية الموقف الأميركي من سياسات طهران. يضاف إلى ذلك رفع إسرائيل سقف تحديها لإيران عبر تكثيف الضربات لقواتها ومخازنها في سوريا بشكل أفقد إيران كثيراً من هيبتها العسكرية.
هي لحظة خيارات إيرانية صعبة، في ظل أزمة داخلية كبيرة، تتجاوز الاختناق الاقتصادي، إلى الصراع العميق داخل النظام على خيارات الجمهورية الإسلامية ومستقبلها. ولعل ما يختصر هذا الصراع على الخيارات السياسية وعلى مشروع الدولة والنظام، كلام «كبير» لوزير الخارجية محمد جواد ظريف، نفى فيه أن يكون أي مسؤول في بلاده قد هدد بتدمير إسرائيل!!
وجّه ظريف كلامه لإسرائيل كي يسمع العالم… بيننا عقلاء… ولكن!!