يصرُّ العماد ميشال عون على أن «ينطح» الصخرة. وعلى رغم الدم الذي يسيل من رأسه لا يتراجع. وبين خصومه وحلفائه، المسلمين والمسيحيين، هناك مَن يضحك في سرِّه: «الجنرال» يرفض أن يهزمه أحد… لكنه يهزم نفسه بنفسه!
كان معروفاً أنّ عون لا يمكن أن يُحصِّل شيئاً من خلال التصعيد في الشارع، لا لضعفٍ في شعبيته- وهي ليست ضعيفة- بل لأنّ لعبة الشارع في لبنان لا تقود إلى أيّ مكان إلّا عندما تكون مغطاة بقرار خارجي كبير، إقليمي أو دولي، بهدف تحقيق غاية معينة. وفي عبارة أشدّ وضوحاً، ينجح الشارع في لبنان عندما يتمّ تحريكه ضمن مخطط مدروس ومهيَّأ نجاحه خارجياً.
بقي السوريون يحتلّون لبنان 40 عاماً. ومنذ العام 1990، سيطروا تماماً على السلطة واستولدوا زعامات وأحزاباً وتنظيمات طَوْع قرارهم. ولم يكن يتحرَّك شارعٌ ضدّ السوريين، حتى أولئك الذين ينتفضون اليوم على آل الأسد. فالشارع خرافة في دول العالم الثالث.
ولم ينطلق حراك 14 آذار 2005 إلّا بتغطية إقليمية- دولية. فتلك الساعة كانت ساعة القرار بانسحاب الأسد من لبنان. والدليل أنّ كلّ حراكٍ شعبي جرى بعد ذلك، كان استعراضياً لا أكثر ولم يقدِّم ولم يؤخِّر إلّا ذلك الذي قاده «حزب الله» عشية 7 أيار 2008.
و«حزب الله» هو وحده القادر اليوم على القيام بحراكٍ شارعي صالح للتثمير السياسي، لا لشيء إلّا لأنه يمتلك الكثير من أدوات القرار، فيما جميع الآخرين يفتقدونها، وهي: الترابط المباشَر مع قوة إقليمية نافذة، وامتلاك السلاح وإمكانات استعماله، والتغطية من مؤسسات وأجهزة رسمية أساسية.
ولذلك، يُعطى «التيار الوطني الحرّ» مكاسب في السلطتين التشريعية والتنفيذية، عندما يكون شريكاً لـ«حزب الله» في الحراك الشعبي. ولا يُعطى شيئاً عندما يأخذ على عاتقه المبادرة منفرداً، أو عندما لا تكون مطالبه ملائمة لمصالح «الحزب».
ففي هذين الحالين، يكتفي «الحزب» بمراضاة الحليف المسيحي شكلاً لا مضموناً، كما يحصل اليوم. وفي أيّ حال، يحرص «الحزب» على إعطاء شريكه المسيحي جوائز الترضية لخدماتٍ تحالفية يؤدّيها. فهو يرغب في استمرار الولاء العوني. و»بالشكر تدوم النِعَم».
ربما يكون العماد عون، في قرارة نفسه، نادماً عن قيامه بحراكٍ شعبي أظهره هزيلاً، وهو الذي رفع يوماً لواء تمثيله 70% من المسيحيين.
لكنّ الواقعية والموضوعية تقتضيان تسجيل الملاحظات الآتية:
1- إنّ أيّ طرف سياسي مسيحي ليس قادراً على الحشد في الشارع أكثر من عون. ويجدر التنويه بأنّ لعبة الشارع ليست لعبة مسيحية في لبنان. وأساساً، هي لم تكن كذلك في أيّ يوم مضى.
وعندما تحرَّك الشباب المسيحيون لمواجهة الوصاية السورية، في الزمن السوري، وكانت لهم قضية مشترَكة آنذاك، جرى قمعهم بسكوتٍ أو تغطية أو تواطؤ من القوى السياسية الأخرى كافة، والتي هي اليوم في 8 و14 آذار والوسط.
2- إستطراداً، يجدر طرحُ السؤال: هل هزيمة عون في الشارع هي هزيمة مسيحية، أيْ هزيمة للمسيحيين؟
لا يستطيع خصومُ عون المسيحيون وحلفاؤه على السواء، أن يتجاهلوا الحقيقة الآتية: إذا لم يكن الطرف الذي يمثِّل نصف المسيحيين قادراً على تجييش سوى بضع مئات في الشارع، فهذا يعني أنهم جميعاً ربما يستطيعون تجييش مئات أخرى أو آلاف قليلة لا قيمة لها في استعادة «الحقوق المسيحية السليبة» بعد الطائف.
ولذلك لا يحقّ لأيّ قوة مسيحية أن تفرح بمشهد الفشل العوني، والقول: «عظيم… لقد أسقط عون نفسه بنفسه ونحن سنرث شعبيّته». فالثورُ المسيحي الأسْوَد غالباً ما يُؤكَل مباشرة بعد الثور الأبيض!
3- لم يقتنع الرأي العام، حتى العوني، بأنّ شعارات عون المرفوعة تستأهل النزول إلى الشارع. فكثيرون باتوا يسألون أنفسهم عن الاعتبارات العائلية والشخصية التي تقبع في خلفية شعار «الحقوق المسيحية».
4- باستثناء «حزب الله»، ليس في قدرة أيّ طرف غير مسيحي أن ينظِّم حراكاً فاعلاً في الشارع. وحتى تيار «المستقبل» يتجنّب الحشد الشعبي، ولو اقتضت مصلحته ذلك في لحظة ما، لأنه يخشى عواقب الصدام المذهبي المحتمَل. وأمّا «الحزب» فيستعين بالإيديولوجيا والمصلحة والإمساك بالأرض في آن معاً.
إذاً، ليس عون وحده هو الذي تلقّن الدرس في الشارع، علماً أنه غالباً يكرِّر الدروس الذي تلقَّنها سابقاً. فغالبية خصوم عون وحلفائه، على حدّ سواء، يجدر بهم أن يفكِّروا جيداً في ما جرى. وبالتأكيد، وقعت «بقرة» عون، ولكن على بعض السلاّخين أن يتحسَّسوا جلودهم أيضاً!
وقعت «بقرة» عون، ولكن على بعض السلاّخين أن يتحسَّسوا جلودهم!