«أتعلم أنّ جراح الشهيد تظل عن الثأر تستفهم تمص دماً ثم تبغي دماً وتبقى تُلِحّ وتستطعم فقل للمقيم على ذلّه هجيناً يُسخر أو يُلجم تقحَّم لُعِنْتَ أزيز الرصاص وجرِّب من الحظ ما يُقسّم» محمد مهدي الجواهري
ليس هناك أبلغ من شعر الجواهري في رثاء أخيه مهدي الذي سقط شهيداً، في وصف الحالة التي تجد المنظومات الثورية نفسها فيها، فالشهداء يستدرجون شهداءَ آخرين، والدم يجرّ الدماء. وفي المحصّلة فهي ضربة حظ لمقامر خسر معظم ما يملكه فوضع ساعة يده ومفتاح سيارته وحجة امتلاك منزله، وهناك نوادر تُروى عن رهان على الأبناء والبنات، وحتى على قطع من أجسامهم.
لكنّ الأمور تصبح كارثية عندما تتحوّل المغامرة إلى رهان على القدرة على التضحية بمزيد من الأرواح ومزيد من الدماء والدمار. في الوقت ذاته يراهن الثوري على محدودية قدرة العدوّ على التضحية بالدماء والأرواح من أتباعه! حلقة مفرغة ولا شك، فتصوّروا لو أنّ طرفي الصراع يراهنان على الشيء نفسه.
في بحث للمؤرخ «نيال فرغسن» عن التفاصيل الدقيقة للحرب العالمية الثانية، يؤكّد الباحث أنّ كلّ المغامرات التي أدّت إلى موت الملايين من البشر، ومن كلّ الأطراف التي شاركت بها، كانت مراهنات أساسها حجم قدرة كلّ طرف على التضحية بالبشر والدماء. وحتى عندما وصلت الأمور إلى حدّ الهزيمة المؤكدة، لم تتوقف الحرب لأنّ قادتها كانوا يراهنون على المعجزات الآتية من ضربة حظ!
فمع أنّ هتلر كان قد خسر الحرب عملياً بعد فشل الحملة على روسيا، لكنّه أصرَّ على الإستمرار ودفع بملايين من فتيان ألمانيا إلى حتفهم، وتسبّب بدمار معظم المدن التي تغنّى هو نفسه بعمرانها. كذلك فعل جنرالات الإمبراطور «هيروهيتو» في اليابان في المواجهة مع الحلفاء، فأرسلوا الطائرات الإنتحارية وفيها خيرة شباب اليابان، وأحرقت الطائرات الأميركية طوكيو، ولم تتوقف آلة الموت إلّا بعدما خرج الوحش الذري إلى ساحة المعركة.
لم يستفد أحد، رغم كلّ ذلك، من التجربة الدموية، فالبعض يظنّ أنّ قضيته أكثر صلابة وأحقية من غيرها، وأنّ جماعته هي أشرف الناس وأفضلهم ومصير «شهداءها» الجنة، وأنّ مصير «قتلى» الآخرين النار، وأنّ الرعاية الإلهية هي التي ترعى القضيّة، وأنّ الملائكة تحرس المقاتلين في سبيل الحق.
وقد يظنّ القائد أنّ نبرته في الخطابة أكثر إقناعاً من القادة الخاسرين، أو أنّ سحر شخصيّته أكثر بروزاً من قادة ظنّوا قبله أنهم ميامين، أو أنّ صفاته الحميدة وسيرته الذاتية أكثر نقاوة من سيرة الآخرين، ولكنه في النهاية يعود ويستعمل العدّة ذاتها التي جرّبها أبطال إن انتصروا، وخونة إن ربحوا، لكنّ الرابح والخاسر معاً كان رهانهما على عدد «الشهداء الأبرار» المستعدين للموت من أجل وعود بجنّة ما في مكان ما.
كلّ ذلك تذكّرته عندما سمعت وشاهدت (الأمين العام لـ«حزب الله») حسن نصر الله في خطابه التأبيني لذي الفقار، أداة القتال المجربة، والمتمرّسة، الذي تحقّقت أمنيته بالإستشهاد فداءً لما يظنّ أنه حق، ولأنه مؤمن إيماناً حقاً وقضيته قضية حق.
وأعتقد أنّ مَن قتل ذي الفقار وغيره من قادة «حزب الله» وكوادره يظنّ أنّ نصيبه الجنة والخلود، وأنّ قضيته قضية حق، وأنّ ذي الفقار ورضوان وغيرهما ليسوا بالشهداء، بل معتدين على الوطن وعلى الدين.
فتذكرتُ ابن رشد بقوله: «التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، فإذا أردتَ أن تتحكّم بجاهل فعليك أن تغلّف كلّ باطل بغلاف الدين».