ليست استقالة الرئيس سعد الحريري، مجرد استقالة لرئيس مجلس الوزراء في لبنان. ما قاله في الخطاب الذي شرح فيه للبنانيين سبب إقدامه على هذه الخطوة يشير إلى أن الموضوع أكبر بكثير من لبنان، فضلاً عن أنّه مرتبط بمستقبل البلد ومصيره في وقت تبدو المنطقة كلّها مقبلة على أحداث كبيرة قد تنطلق شرارتها من سوريا تحديداً.
قال سعد الحريري ما كان مطلوباً منه أن لا يقوله. كان مطلوباً إسكاته في وقت تعتبر فيه إيران أن لبنان مستعمرة من مستعمراتها في المنطقة العربية، وأنّ رئيس مجلس الوزراء اللبناني لا يمكن أن يكون أكثر من موظّف لدى «حزب الله»، أي لدى «الحرس الثوري» الإيراني.
كان كلّ شيء في لبنان يوحي بأنّ الزيارة التي قام بها سعد الحريري للرياض قبل أكثر من أسبوع ناجحة بكل المقاييس، خصوصاً بعد المحادثات التي أجراها مع وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان ومع عدد من كبار مساعديه بينهم وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان. كما كان متوقّعاً، عاد الحريري من بيروت إلى الرياض مساء الجمعة لمتابعة المحادثات التي أجراها قبل أسبوع مع وليّ العهد السعودي. كان منتظراً أن يعود سعد الحريري مجدداً إلى بيروت، لكن ظروفاً مستجدّة جعلته يقدّم استقالته بدل أن يكون الموضوع الأساسي للزيارة توفير مساعدات سعودية للبنان كي يتمكّن من تجاوز المرحلة العصيبة التي يمرّ فيها في ظلّ الإصرار الأميركي على معاقبة إيران و«حزب الله».
لم يعد سرّاً أن ثمّة عاملين أديا إلى الاستقالة. الاوّل وجود استعدادات وخطط لاغتيال سعد الحريري. ستتكشّف تفاصيل هذه الاستعدادات والخطط قريباً. لذلك لم يتردد سعد الحريري في القول إنّ الأجواء في لبنان تشبه هذه الأيّام الأجواء التي سادت في مرحلة ما قبل اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من آذار ( شباط) 2005.
أمّا العامل الثاني، فهو الأجواء التي أحاطت باللقاء بين رئيس مجلس الوزراء اللبناني وعلي أكبر ولايتي مستشار «المرشد» الإيراني علي خامنئي الذي التقى الحريري في مقر رئيس مجلس الوزراء يوم الجمعة قبيل توجّه الأخير إلى السعودية. أوحت الأجواء بأن ليس أمام لبنان سوى خيار أن يكون إلى جانب إيران في هذه المرحلة التي تمرّ فيها المنطقة. وهذا يعني صراحة أن على لبنان أن يختار، بالتي هي أحسن، الانضمام إلى «جبهة المقاومة والممانعة» التي تسيّرها طهران.
لدى الحديث عن خلفيات الاستقالة، هناك، قبل كلّ شيء، وضع في غاية الدقّة في سوريا حيث تسعى إيران إلى تكريس وجودها على الأرض في هذا البلد الجار للبنان عن طريق مقاتلين لبنانيين ينتمون إلى «حزب الله» وآخرين من ميليشيات مذهبية يحمل أفرادها جنسيات مختلفة. لا تستطيع الحكومة اللبنانية، أيّ حكومة لبنانية، القبول بالمنطق الإيراني، لا في سوريا، ولا في لبنان طبعاً. لا تستطيع ذلك لأنّ مثل هذا المنطق سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى حرب إقليمية يذهب ضحيتها لبنانيون وسوريون.
يوفّر الوجود الإيراني في سوريا ولبنان، وهو وجود مباشر وعبر ميليشيات تابعة لإيران، ذريعة لإسرائيل كي تشنّ حرباً لن تؤدي سوى إلى مزيد من الفوضى والخراب في البلدين. هل عيب أن يرفض زعيم لبناني في حجم سعد الحريري التصرّفات الإيرانية في سوريا ولبنان وحتّى في مناطق عربية أخرى مثل العراق والبحرين واليمن؟
فوق ذلك كلّه، هناك خلفية دولية لاستقالة سعد الحريري في وقت ترفض إيران أن يكون لبنان في منأى عن المواجهة بينها وبين كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل. كلّ ما تريده إيران هو أن يكون لبنان منصّة لإطلاق الصواريخ وحتّى لصنعها وأن يدفع ثمن رغبتها في التوصل يوماً إلى صفقة مع «الشيطان الأكبر» الأميركي و«الشيطان الأصغر» الإسرائيلي.
بكلام أوضح، تعتبر إيران نفسها في حرب مع الولايات المتحدة، خصوصاً بعد الخطاب الأخير للرئيس دونالد ترامب في الثالث عشر من تشرين الاوّل (أكتوبر) الماضي. تعتبر كل الضربات الاستباقية مسموحة في كلّ الاتجاهات. من هذا المنطلق، صار سعد الحريري هدفاً إيرانياً، لا لشيء سوى لانّه يرفض أن يكون لبنان مجرّد «ساحة» تستخدمها إيران في تصفية حساباتها مع العرب، خصوصاً مع المملكة العربية السعودية ومع المجتمع الدولي، على رأسه الولايات المتحدة. ما ذنب لبنان إذا كان يرفض أن يكون ورقة من أوراق إيران؟
كان مطلوباً من سعد الحريري لعب دور الغطاء للسياسات الإيرانية في المنطقة. عندما يكون الخيار بين لعب مثل هذا الدور في مقابل البقاء في موقع رئيس مجلس الوزراء وبين الاستقالة، فإن شخصاً مثل سعد الحريري لا يستطيع إلّا الاستقالة.
في استقالة سعد الحريري إعادة اعتبار لموقع رئيس مجلس الوزراء في لبنان. خسر الرجل الكثير من رصيده اللبناني والعربي وحتّى السنّي منذ دخل في تسوية أوصلت ميشال عون إلى موقع رئيس الجمهورية. لم يعد طبيعياً أن يقتصر تقديم التنازلات على سعد الحريري والفريق السياسي الذي ينتمي اليه، بأيّ شكل.
دخل لبنان مرحلة جديدة في غاية الخطورة في وقت تبدو إيران مستعدة لعمل كلّ شيء كي تظهر قدرتها على الإيذاء عن طريق ميليشياتها المنتشرة في كلّ المنطقة. ليس الصاروخ الذي أطلقه الحوثيون من الأراضي اليمنية في اتجاه مطار الملك خالد في الرياض سوى دليل على وجود جنون إيراني في مرحلة ما بعد خطاب ترامب الذي يصرّ المسؤولون الأميركيون على الربط بينه وبين المملكة العربية السعودية ونفوذها في واشنطن.
يرفض لبنان دفع ثمن الجنون الإيراني. الأكيد أن ذلك لا يكون بكلام سطحي عن لبنان والحرب على الإرهاب و«داعش» من دون أيّ إشارة إلى العلاقة العضوية بين الإرهابين السنّي والشيعي الذي كشفته الأوراق والرسائل التي أخذها الأميركيون من منزل أسامة بن لادن. يرفض سعد الحريري دفع ثمن الجنون الإيراني الذي وصل إلى حدّ التصرّف مع لبنان بصفة كونه جرماً يدور في الفلك الإيراني.
ما كشفته استقالة سعد رفيق الحريري أن الوضع في لبنان ليس على ما يرام وأن ليس من مهمّات الحكومة اللبنانية حماية إيران وسياساتها المعادية لكلّ ما هو عربي في المنطقة.
هناك تسوية أدت إلى وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. لم تعد هذه التسوية قائمة. لم يعد سعد الحريري قادراً على تقديم مزيد من التنازلات لحماية السلم الأهلي وما يترتب على فرض «حزب الله» نفسه على مؤسسات الدولة اللبنانية. دفع سعد الحريري الكثير من رصيده. كلّفته مواقفه الكثير داخل طائفته نفسها. لكنّ كفى تعني كفى. لا يستطيع سعد الحريري، العربي أوّلاً، الذي ينادي بلبنان أوّلاً، توفير غطاء لإيران وجنونها لا في لبنان ولا خارج لبنان…