الكثيرون منا لم يصدقوا للوهلة الأولى عندما شاهدوا وسمعوا النائب والوزير وائل أبو فاعور، ذلك أننا كما سائر اللبنانيين قد اعتدنا الألاعيب السياسية لدرجة أن أصبحنا في ظل الوضع البائس المزري الذي نتخبط فيه، نتقبل أكثر الأشياء مرارة، صاغرين مستسلمين. فالمعارك الكلامية والمفاجآت المدوية غالباً ما يعقبها بين السياسيين غسيل ناصع للقلوب ويجري إعادة ترتيب البيت الداخلي في البرلمان العاجز أو وراء الكواليس لا فرق.
إلا أننا هذه المرة، يبدو الأمر مع الوزير وائل أبو فاعور لا يندرج ضمن ما اعتدناه. فقد حزم الوزير المقدام أمره وتجرأ وقال بالفم الملآن ما يتناقله الكثير من اللبنانيين. في سرائرهم وأحياناً في العلن بصوت مخفوض. فالوزير أسقط من حساباته كل الاعتبارات والضغوط والمواقف بل الملامات والتداعيات التي أطلقها من عقالها موقفه الشجاع والمسؤول. إنه يكاشف اللبنانيين علناً بالحقيقة كل الحقيقة وليكن ما يكون. فهو يجرؤ على النطق بالجواب الصادق الشفاف على السؤال الذي يراود غالبية اللبنانيين: نريد أن نعرف ماذا نأكل وماذا نشرب.
وما أن أنهى وزير الصحة الشاب كلامه حتى هبت كل المؤسسات التي طاولها التصريح، وتلك التي أحست بأن مصالحها غير المشروعة متضررة أو مهددة لتثير ضده معركة حامية الوطيس. فأن يعمد الوزير الشجاع لنشر الغسيل الوسخ علناً، فهذه لعمري سابقة خطيرة لم يعهدها اللبنانيون في تاريخهم الحديث. فلطالما كان الاتكال على الرشوة والفساد والتحايل على القانون وتعفن الإدارة وغياب الرقابة الصحية والقنوات الخلفية المفتوحة أبداً مع العديد من السياسيين لتغطية ارتكاباتهم ومخالفاتهم هي الملاذ والحل. فقد قامت قيامة أصحاب الفنادق القلب النابض للقطاع السياحي، والذي هو بالأساس يعاني سكرات الموت وكان قد أصابه ما أصابه من كساد من جراء سياسة معاداة العرب السيئة الذكر تحت لافتة «سياسة النأي بالنفس»، فإذا به الآن يصاب في مطاعمه ومقاهيه وملاهيه.
بل سارعت بعض الأوساط من مستثمرين وشركاء المتهمين لكيل الاتهامات للوزير الشاب؛ ابتداء من اتهامه بالطائفية ومروراً بالجهوية وانتهاء بوصفه بالتهور والنزق وانعدام الخبرة. علماً أن غالبية اللبنانيين كانوا قد تابعوا نشاطه الدؤوب الحثيث وزياراته المكوكية لجميع الأطراف والفعاليات والقوى والأحزاب كي تتمكن الحكومة الحالية من رؤية نور الولادة على خلفية تجنيب لبنان أسوأ المخاطر الداهمة، ما دام التعنت هو سيّد المواقف الرائجة حيث يبدو انتخاب رئيس جديد للجمهورية من الاستحالة بمكان الآن في ظل المعطيات الراهنة، وعلى رأسها تصلب العماد عون بدعم قوي من حزب الله.
إن المشكلة الكبرى التي أطلقها الوزير أبو فاعور من عقالها لا تنحصر في الأدلة التي عمد للكشف عنها في العلن فحسب، ولا في عبثه بأعشاش دبابير أصحاب المصالح المتضررة وهم كثر فانطلقت يعاسيبهم تبث سمومها في كل الاتجاهات، بل بالضبط لأنه بفعله هذا وموقفه، قد فتح ملفاً خطيراً مضنياً عصياً يقوده حتماً الى ملفات أخرى في غاية الخطورة والأهمية.
فما دام الغذاء والصحة توأمان لا ينفصلان، فالغذاء يقودنا الى القطاع الزراعي مباشرة حيث نعيش يومياً جنباً الى جنب مع غياب فاضح للأمن الصحي الزراعي، خصوصاً ونحن جزء لا يتجزأ من البيئة المتوسطية التي تعتمد على الخضراوات والحبوب والبقول النيئة في طعامنا اليومي. فأي ري صحي يتم تأمينه للخضراوات التي نتناول بعد غسلها بالماء؟ أي مجارير ومياه صرف صحي ومياه عوادم المعامل يتم استخدامها في هذا المجال؟ وأي مكبات نفايات سائلة أو صلبة تجتازها الأنهر والسواقي والقنوات؟ لا بل هذه المياه نفسها ملوثة بحد ذاتها. وماذا عن شركات المياه نفسها، وماذا عن المياه المباعة في الأسواق بلا ترخيص والمجهولة المصدر والهوية؟ فعندما تثور ثائرة وزير الزراعة السابق من جراء ذلك فمرد ذلك أن جانباً من القطاع الزراعي مخالف لأبسط قواعد الصحة العامة، وهو ليس في صدد تطبيق تلك القواعد في مناطق نفوذ حزب الله وهو عضو بارز فيه.
وفي آن معاً من المعيب حقاً أن تُساق الاتهامات بحق الوزير أبو فاعور من زاوية أن العينات التي جرى فحصها في المختبرات لم تشمل المطاعم الشعبية في مربع الضاحية الجنوبية الأمني، فإن ذلك لا يشكل سوغاً قانونياً قط كي لا تخضع هذه بدورها للرقابة الصحية ولا بالمقابل يعفي أصحاب المطاعم المدانين من سوقهم أمام العدالة سواء بسواء.
ليس سراً على اللبنانيين أن ثمة احتكاراً حقيقياً لاستيراد المواشي والأسماك من الخارج وأن من يحاول التطاول على هذا الاحتكار لهو معرض للخطر الشديد. فالشعور السائد بين المواطنين أن هناك رؤوساً كبيرة هي التي تؤمن لها الحماية والغطاء. إنه الفساد بعينه تحميه الهراوات الغليظة وفي الوقت نفسه الرشوة التي ينخر سوسها الإدارات العامة وكل المرافق الحيوية في البلاد.
لقد قطع الوزير أبو فاعور مسافة في الدهليز المظلم نفسه الذي تجرأ من قبله الوزير اميل بيطار السير فيه منذ حوالى 40 سنة فكان أن أقيل عنوة آنذاك. وكيف لا عندما فتح ملف الدواء في لبنان مباشرة وكان ذلك بشجاعة مثلى، وهذا كما نعلم من المحرمات tabous إذا واجهه يومها تحالف مخيف من كبار محتكري ومستوردي الدواء ونقابة الصيادلة يساندهم كبار رموز السلطة آنذاك من أولئك المستثمرين والمستفيدين من التلاعب والتهريب والصفقات المريبة. سقط اميل بيطار لكن «القضية» بقيت تنتظر رجلاً يأخذ بناصيتها مهما كان الثمن!
الأمن الغذائي، الأمن الزراعي، العناية الصحية، الصحة العامة، مصلحة قمع الغش، التحالف العريض لمستوردي الماشية واللحوم والأسماك، الأدوية المزورة والمهربة وصولاً الى المخدرات التي منذ زمن لم تعد تكتفي بزوايا المقاهي والفنادق وعلب الليل ولا بأبواب المدارس والجامعات بل أصبح يتداولها اخوتك واخواتك من الطلاب المدمنين التعساء في قاعات التدريس والكافيتيريات يا معالي الوزير.
لسوف نخوضها معركة ضارية هي بحق «أم المعارك». إنها معركة الفساد بقضّها وقضيضها ومعك كل اللبنانيين الشرفاء!