IMLebanon

عندما ينجح الاعتدال في احتواء الأزمات

 

لا تقتصر أهمية الخطاب السياسي والديني والمذهبي المعتدل في لبنان، كونه وسيلة ضرورية لمواجهة التطرف «الداعشي« الذي يواصل التمدد في المنطقة، ويحاول أن يطل برأسه في لبنان عبر عناوين متعددة أبرزها ملف خطف العسكريين اللبنانيين. بل إن ثمار هذا الخطاب يمكن قطفها على الساحة الداخلية، من خلال إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مهما كانت التباينات واسعة بين القوى الأساسية في البلد، وتخفيف حدة التشنج في الشارع اللبناني الذي ينقسم في الغالب عمودياً حول الملفات والاستحقاقات الداهمة التي تواجه البلاد.

قد يكون ملف العسكريين المخطوفين هو المثال الأقرب على أهمية هذا الخطاب، وقبله ملف تشكيل الحكومة والأداء الوزاري خلال الأشهر المنصرمة. ففي الملف الأول، أن الخطاب العقلاني لذوي العسكريين الشهيدين علي السيد وعباس مدلج، والذي تمت مواكبته على الأرض من قبل قوى 14 و8 آذار، هو الذي أدى إلى احتواء ردود الفعل الغاضبة بعد استشهادهما. وفي الملف الحكومي، أن «الحوار المضبوط» هو الذي حوّل النقاشات داخل مجلس الوزراء إلى «برد وسلام»، ومنع احتراقها في نار الاستقالة وتصريف الأعمال بعد أن برزت التباينات بين وزرائها أكثر من مرة وحول أكثر من ملف. 

كل ما سبق يدعو الى البحث عن أهمية الخطاب السياسي والإعلامي المعتدل في هذه المرحلة التي تمر بها البلاد، وكيف يمكن أن تنعكس نتائجها على الساحة الداخلية. يستشهد وزير الإعلام رمزي جريج بكلام للنائب الراحل حميد فرنجية عن أن «الخير يصبح شراً إذا انقسم اللبنانيون حوله، والشر يصبح خيراً إذا اتفق عليه اللبنانيون» معتبراً لـ«المستقبل« أن «لبنان في هذه المرحلة الصعبة يحتاج الى الحوار والتواصل وليس لشيء آخر». في حين يؤكد وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس لـ«المستقبل«، «أن الخطاب المتشنج يذكي الفتنة والانقسام ويجعل من البلد فرق عملة»، ويلفت عضو كتلة «المستقبل« النائب جان أوغاسبيان لـ«المستقبل« أن «المرحلة التي تمر بها المنطقة ليست مرحلة حلول، وبالتالي على اللبنانيين إدارة خلافاتهم بشكل صحيح والقيام بنوع من الفرملة قبل الذهاب إلى الهاوية». أما عضو تكتل «التغيير والإصلاح« النائب غسان مخيبر فيشدد لـ«المستقبل« أنه «من حيث الشكل فإن مؤسسات الحوار في لبنان معطلة والتقنيات غير موجودة والإعلام موجه ومملوك، وكل ذلك يؤدي إلى انهيار ثقافة الحوار الذي هو في عمق الاعتدال«، بينما يشير عضو كتلة «التحرير والتنمية« النائب ميشال موسى لـ«المستقبل« الى أن «الخطاب السياسي الهادئ من القيادات ينعكس هدوءاً لدى الجمهور، من دون أن يعني ذلك مساساً بحرية التعبير التي يمكن أن تُصان، من خلال وضع أطر للخطاب من دون أن يكون له تداعيات تشنجية على الشارع». 

يمكن الاستنتاج مما سبق أن الخطاب السياسي والإعلامي المعتدل ضرورة في كل الظروف والمراحل لتجنب الأسوأ، وهذا ما يؤيده جريج معتبراً أن «الاعتدال الفكري أمر ضروري في المجالات كافة، فالكلمة نفسها مستقاة من العدل أي الإنصاف والمقاربة المتزنة والمتجردة للأمور، وهي في السياسة، خاصة في مجتمع متعدد الثقافات والانتماءات، أكثر ضرورة منها في أي مجتمع آخر». 

ويضيف «يقول أحد الكتاب الفرنسيين أن أي شيء مبالغ فيه يصبح تافهاً، فإذا نظرنا إلى ما نشهده خارج حدودنا وأحياناً عندنا على لسان قلة من خطاب متطرف، لا يمتّ إلى العقل بصلة في حين أن الخطاب المعتدل لدى كافة القوى السياسية الفاعلة يشكل مساحة تلاقٍ بينها، على مسلمات وطنية تشكل جامعاً مشتركاً بين اللبنانيين وضامناً أساسياً لوحدتهم وعيشهم المشترك، وفي طليعة تلك المسلمات لبنان أولاً أي السيادة الوطنية وقيام الدولة القادرة الفاعلة والالتزام بالاستحقاقات الدستورية، وتغليب المصلحة الوطنية على الشخصية، وذلك كله ممكن إذا اعتمدنا خطاباً سياسياً معتدلاً يجمع ولا يفرّق، فمنذ 60 عاماً قال النائب الراحل حميد فرنجية «الخير يصبح شراً إذا انقسم حوله اللبنانيون والشر يصبح خيراً إذا اتفق عليه اللبنانيون، وما أحوجنا في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ وطننا إلى الحوار والتواصل، والأمثلة كثيرة فالحوار بين اللبنانيين أنتج إعلان بعبدا وهو أمر أساسي، كما أدى إلى التوصل إلى اتفاق الطائف الذي أنتج وثيقة الحوار الوطني». 

من جهته يرى درباس أن «هناك بوادر حلول في أفق المنطقة، ولذلك علينا ترتيب الشأن الداخلي لاستقبال الحلول والتكيف معها، أما الخطاب المتشنج الذي يذكي الفتنة والانقسام فقد يجعل من البلد فرق عملة لهذه الحلول«. ويضيف: «المسألة بيدنا ونحن الذين نستطيع التعامل مع العاصفة الهوجاء بحنكة لكي نجنب البلد ما هو أسوأ، أما إذا قررنا الوقوف في عين العاصفة فلن تتوانى العاصفة عن ابتلاعنا. إن المرحلة تتطلب منا التعقل من دون أن يعني ذلك تغيير الموقع السياسي والفكري لأي فريق، بل على جميع الأطراف الأخذ بالاعتبار أن موازين القوى تغيرت وأن أي صراع سينتهي بتسوية، وبالتالي فإن تجنب اللغة الإقصائية والتخوينية والتكفيرية يفضي بنا إلى نقاط مشتركة، لعل أبرزها أن كل المكونات السياسية أو الطائفية أو المذهبية هي في أمسّ الحاجة الى دولة لبنان ومن يفرط هذه الدولة يفرط وجوده». 

من ناحيته يرى أوغاسبيان أن «الإعلام غير مسؤول عن الخطاب المتشنج الذي يطلقه السياسيون، بل إن الإعلام يظهر الكلام والموقف والمناخ والأداء السياسي، وبالتالي على السياسيين الحريصين على البلد في ظل الإرهاب والتطرف وصراع المصالح والأجندات في المنطقة، قبول الآخر وانتهاج ثقافة الإدراك للوصول إلى حلول وتفاهمات وتسويات إنقاذية«. 

ويضيف: «المرحلة ليست مرحلة حلول في المنطقة أو في لبنان، لكن علينا كلبنانيين إدارة خلافاتنا بطريقة صحيحة والقيام بنوع من الفرملة حتى لا نصل إلى الهاوية وإيجاد مخارج لحماية البلد«. 

أما موسى فيلفت الى أنه «في الأزمات الكبيرة الخطاب السياسي يتأثر ويؤثر سلباً وإيجاباً، وأي خطاب متشنج يؤدي بالشارع إلى أن يصبح أكثر عنفاً، والمطلوب هو العكس، الخطاب السياسي الهادئ من القياديين يهدئ الناس من دون أن تتأثر حرية التعبير سواء قولاً أو كتابة، فالحرية مصانة ويبقى لكل فريق رأيه، لكن هناك أطر لكل ما يريد قوله من دون أن تكون هناك تداعيات تشنجية، فالخطاب السياسي يؤمن التواصل الفعلي بين الناس ويخفف من وطأة أي حادث، في حين أن الخطاب المتشنج غالباً ما يجر ردود فعل».

يفرق مخيبر «بين الاعتدال بالشكل الذي يعني خطاباً منفتحاً على الحوار الهادف والملتزم بآداب التخاطب، أي أن يكون المشارك في نقاش عام مستمعاً للرأي الآخر ومحترماً له ومنفتحاً على تبديله في ضوء تبادل الرأي والرأي الآخر، ومن المفترض أن تعمل المؤسسات السياسية بشكل فعال على تأمين ذلك لا سيما في مجلسي النواب والوزراء لأن الخطاب السياسي يسعى للوصول الى قرار ضمن المؤسسات، أما في وسائل الإعلام فتسعى إلى إقناع الرأي العام بصوابية الموقف«.

ويتابع: «على مستوى الشكل آسف القول إننا نجد في الواقع السياسي اللبناني تلويثاً وقضاء على الأدبيات الفضلى في النقاش السياسي، إذ إن مؤسسات الحوار معطلة والتقنيات غير موجودة والإعلام موجه وكل ذلك يؤدي إلى انهيار ثقافة الحوار الذي هو في عمق الاعتدال في الحوار، أما في المضمون فإن الاعتدال في المضمون لا يعني التفريط بالمسائل المبدئية إذ إن الاعتدال مطلوب في المسائل النسبية ومرتبطاً باتخاذ القرار للوصول الى نتيجة مشتركة قابلة للتطبيق. والأمثلة عديدة فالخطاب الذي أدى إلى تشكيل الحكومة هو نتيجة تبدل في الآراء، ما أدى إلى إنتاج تسوية، وهي شيء حميد، بينما العناد هو من سمات التطرف والمرونة من دون التنازل هي من سمات الاعتدال«.