«جود الرجال من الأيدي
وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود
العبد ليس لحرّ صالح بأخ
لو أنه في ثياب الحرّ مولود»
(المتنبي)
جميلة ومغرية تلك الكلمات المُنمّقة الهادئة والناصحة التي أطل بها السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، وخصوصاً في الجزء المتعلق بالذهاب إلى سوريا للقاء ما تبقى من منظومة فساد وعصابات قتل يرأسها بشار الأسد. فهذه المنظومة هي ضمانة «حزب الله» لاستمرار الوصل بين المستعمرات الإيرانية، وبالتالي فلا فرق لنصر الله إن كانت هذه المنظومة فاسدة أو قاتلة أو فاجرة أو حتى عميلة لإسرائيل والشيطان الأكبر، ولا بأس إن كانت ملحدة أو تعبد الشيطان أو حتى تماثيل الطغاة، فالمهم هو أنها معزولة اليوم ومُفردة «إفراد البعير المعبّد»، وصلة وصلها بالعالم اليوم يتنافس عليها الروس مع الإيرانيين، وكل منهما يحاول أن «يلطش» من الآخر القدر الأكبر من تركة عائلة الأسد.
كل هذا الكلام المعسول عن مصلحة لبنان في العلاقة مع سوريا كلام باطل حتى لو مارس قائله كل باطنيته وتقيته في إظهاره على أساس أنه حق. فمع علمنا جميعاً بمصلحة لبنان بأفضل العلاقات مع سوريا، لكن هذه العلاقات لم تأتِ إلا بأسوأ العواقب على لبنان من منظومة عائلة الأسد من الأب إلى الإبن.
ويكفي اليوم مراجعة فصول نصف قرن من الماضي القريب لنتذكر كم من غصةً لحقتنا من سفرجلة تلك العلاقات، وبعضها أدى إلى اختناق أوصلنا إلى حدود الموت في محطات عدة.
نعم إنه حيوي للبنان أن تكون له أفضل العلاقات مع سوريا، لكن مع أي سوريا؟
إنها بالتأكيد سوريا المستقبل التي ستأتي بتسوية ما، ربما تمنح الاستقرار وتعطي الناس فرصة للتعبير عن الذات وتؤمّن الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهذه الظروف لن تضمنها عصابة الأسد. فلو كانت هذه المنظومة قادرة على ذلك، لما كانت الحرب اندلعت أساساً، وإن اندلعت لما كانت استمرت لتدمّر معظم البلد وتقتل البشر وتهجّر الناس من بيوتهم، ولربما كانت انتهت مبكراً بقرار بشري إنساني يتخلى فيه الحاكم عن الحكم ويترك الخيار للناس.
لكن الحاكم لم يكن من البشر بل كان ولا يزال نوعاً من الوحوش المتعطشة للدماء، وكل من دعمه أو هلل له أو دافع عنه، ما هو إلا من النوع نفسه من المخلوقات!.
ما لنا ولكل ذلك الآن، فالمهم هو مصلحة لبنان واستقراره، ولْننسَ الماضي وشجونه، ونركز على الحاضر وشؤونه. ما يحاول نصر الله وأتباعه اليوم تسويقه هو فكرة أن المواجهة مع الإرهاب التكفيري غفرت للمشاركين فيها كل موبقات الماضي، وجعلت من الممكن فتح صفحة جديدة ناصعة البياض مع سوريا، وهذا يفترض أيضاً أن منظومة الأسد نادمة على ما فعلته بنا على مدى عقود، وقررت الاعتذار وتقديم المرتكبين الى المحاكمة، وبالتالي فإن من بقي على قيد الحياة من قادة أجهزة المخابرات، بعد أن صُفّي معظمهم، سيمثلون للتحقيق والمحاكمة في قضية ميشال سماحة ومسجدي السلام والتقوى وشاكر العبسي واغتيال رفيق الحريري، في وقت ربما مات المطلوبون في قضايا أخرى أو نُحروا أو أجبروا على الانتحار. لكن ذلك لم يحصل، وعلى الأرجح لن يحصل لأن المنظومة التي يتبعها نصر الله تعتبر القتل والابتزاز والإرهاب سياسة ثابتة لإدارة الأمور وإخضاع الناس على الطريقة البلطجية، وبالتالي لا يمكنها التوقّف بالكامل عن استعمال سلاحها الأنجع في الإدارة.
قد يُشبعنا إعلام «حزب الله» وفرقة الزجل التابعة له بالمزيد من الأحاديث الكاذبة عن زحف الدول لكسب ودّ بشار معتمدين على أن معظم السامعين الذين لا يتابعون الحقائق ولا يعلمون أن ما تبقى من حكم في سوريا يتفاخر بأن بعض المُضللين من صغار القوم مدعي الديموقراطية العلمانية وحقوق الإنسان أتوا ليحجّوا عند بشار، والمفارقة هي أن ليس بينهم من لاحظ آثار دماء مئات آلاف السوريين على يده، ولم يلحظوا أنهم يشاركونه في جريمته بزيارتهم. ولكن ما همني من زحف الآخرين، المهم سؤال الزائر اللبناني إلى دمشق هل يفتح صندوق سيارته قبل عودته ليتأكّد أنّه خالٍ من المتفجرات؟.
أما الحديث عن وليمة إعمار سوريا وأن نلحق الرُكب قبل فوات الأوان لنيل الرضا، فما هو إلا خدعة إضافية لذر الرماد في العيون، فلا الحرب انتهت ولا شكل سوريا بعد انتهائها واضح المعالم، وأساساً فإن إعادة الإعمار إن بدأت فلن تكون بقدرات سورية ذاتية، بل بأموال دول داعمة هي على الأرجح غير مُغرمة بالمعسكر الذي يحمي بشار، إلا إذا كان التعويل على كيم جونغ إيل في إدارة عملية البناء، أو ربما جهاد البناء…
(*) عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»