رفع الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله اصبعه من جديد. عاد الصراخ والتهديد والوعيد، وعاد كوب «الليموناضة» ليحتلّ يمين الطاولة. كل تلك المشهدية ليست جديدة، وإن تراجعت في الشهور القليلة الماضية بحكم ضبابية المشهد الميداني السوري. أما وقد أحرز محور المقاومة والممانعة «انتصارات كبيرة» في سوريا، بحسب السيّد، فلا بأس من أن يعود الى التهديد والصراخ على وقع تزايد المعلومات عن استعدادات تركية-سعودية لشنّ هجوم عسكري في الشمال السوري. هذا في المشهدية الأولى. أما الجديد والأخطر في خطاب «الوفاء للقادة الشهداء»، فهو حديث سماحته الموجّه لـ»الشارع السني» في العالم العربي، الذي يعمل قادته على «إبرام تحالفات مع الكيان الصهيوني»، على حدّ زعمه، في محاولة لإعادة إحياء مشروعيته بعد أن سقطت منه وسقط منها بفعل قيادته لحروب «الولي الفقيه» بوجه العرب.
على خطى بثينة شعبان التي صرخت في مؤتمر «جنيف1» متوجّهة الى «المجتمع الدولي» بالقول، «ألستم مسيحيين»؟، في محاولة لحثّ العالم على التحالف مع الأسد بوجه «إرهابٍ يهدّد الأقليات»، على حدّ زعمها، خاطب نصرالله الشارع السني بالصرخة نفسها: «أليست إسرائيل هي من قتلت أهل السنة واحتلت أرضهم في فلسطين»؟! وتساءل: «ماذا فعل الصهاينة بأهل السنّة منذ احتلال فلسطين الى اليوم؟ هل يقبل أهل السنة صديقاً لهم كإسرائيل؟ هل يقبلون صديقاً يحتل أرضاً سنيّة؟ هل تصادقون كياناً ارتكب المجازر بحق أهل السنة؟ هل تصادقون كياناً هجّر الملايين ممن يعيشون اليوم في الشتات»؟
يعلم السيّد أن أحداً من الشعوب العربية والسنيّة التي رفعت صوره في القاهرة والأردن ودول الخليج خلال عدوان تموز عام 2006، لن يرضى بمصادقة إسرائيل أو التحالف معها. لكن أحداً من هذه الشعوب لن يرضى أيضاً بأن تكون إيران، التي فاقت ميليشياتها، الكيان الصهيوني إجراماً، وغزت الأراضي العربية وجاهرت باحتلال 4 من عواصمها ونكّلت بشعوبها، بديلاً وشرطياً على المنطقة. وبما أن نصرالله وجد نفسه مضطراً لاستخدام بعض «الأدبيات الجديدة»، فلتستخدم أيضاً (بحكم الاضطرار طبعاً) لمقاربة ملفات المنطقة. لماذا على العرب السنّة أن يسلموا بالثنائية التي يعرضها عليهم نصرالله: إما إيران وإما إسرائيل؟ ماذا قدّمت إيران للعرب عموماً وللسنّة خصوصاً لكي يقبلوها زعيماً ومرشداً على المنطقة، ويفترضوا أنها بالفعل نقيض العدو الأصلي؟ إسرائيل قتلت وهجّرت سنّة فلسطين؟ صحيح، لكن إيران فعلت أضعاف ذلك في سوريا والعراق، وليس في هذا تقليل من الجرائم الإسرائيلية. (لا تفوت الإشارة هنا إلى أن نصرالله رأى في عاصفة الحزم التي قادتها السعودية في اليمن جريمة لم تقترف إسرائيل مثلها، فهل كان ذلك تبريراً لإسرائيل!) لا ينتبه كثيرون الى أن القرى التي يريد «حزب الله» إخلاءها من سكانها الأصليين في سوريا ربما تفوق مساحة فلسطين بأكملها، أو بالحد الأدنى مساحة الأراضي المحتلة عام 1948. لا ينتبه كثيرون إلى أن عدد اللاجئين السوريين في المخيمات التركية والأردنية وحدها يعادل ثلاثة أضعاف الفلسطينيين الذين هجّرتهم إسرائيل الى المخيّمات لتُقيم كيانها الغاصب على أرضهم في 1948. حتى أن العرب باتوا يقارنون بين مجازر الكيان الصهيوني ومحور «الممانعة» بحق أهل السنة. بين بشار الأسد وأرييل شارون. بين الحصار الإسرائيلي لـ»غزة» وحصار النظام السوري و«حزب الله« لحمص ومخيّم اليرموك والغوطة ومضايا والزبداني. بين حصار بيروت وحصار «القصير» على يد «مجاهدي» سماحته، هناك حيث أكل الناس ورق الشجر. يقارنون أيضاً بين تصريحات رئيس الكيان الصهيوني الإرهابي شيمون بيريز عقب ارتكاب إسرائيل مجازرها، وتصريح بشار الأسد المتهكّم عن «طناجر الضغط» حين سأله مراسل الـ»بي بي سي» عن البراميل المتفجّرة، وحتى تصريح سماحته الذي قال: «ما في شي بحمص»! يقارنون بين الأسرى المحرّرين من معتقلات العدو (ومنهم من خرج حاملاً شهادة دكتوراه)، والشهيد حمزة الخطيب (13 عاماً) الذي خرج من أحد سجون «نظام المقاومة» في سوريا جثّة منتفخة بُتِرَ عضوها الذكري! بين مجزرة «دير ياسين» (360 شهيداً) ومجازر النظام السوري وعموم محور «المقاومة والممانعة» في بانياس والحولة والخالدية وكرم الزيتون والبياضة وحلب وحماه ودرعا ودوما وغيرها من المذابح اليومية. يقارنون بين عدوان تموز الذي أوقع، بكل مآسيه ووحشيته، 1200 شهيد خلال 33 يوماً، ومجزرة الكيماوي في الغوطة التي راح ضحيّتها اكثر من 1466 من سنّة سوريا الذي لا يتحمل القلب الضعيف للسيّد «نسمة هواء» عليها. بين 7822 شهيداً فلسطينياً سقطوا منذ انتفاضة الأقصى عام 2000 حتى عام 2013 (بحسب علا عوض، رئيسة الإحصاء الفلسطيني)، وأكثر من نصف مليون شهيد سوري سقطوا في 5 سنوات! بين 196 فلسطينياً استشهدوا في سجون الكيان الصهيوني الإرهابي منذ عام 1967 (بحسب وزارة شؤون الأسرى والمحرّرين الفلسطينية) وأكثر من 358 شهيداً من اللاجئين الفلسطينيين في سجون الأسد خلال 4 أعوام.
في تبريره للمواجهة مع السعودية وتركيا، «عملاء الكيان الصهيوني»، كما وصفهم، استشهد نصرالله بالصحافة الإسرائيلية ليؤكّد أن «العدو الصهيوني يعتبر وجود الجماعات الإرهابية في سوريا أفضل من بقاء النظام السوري القائم حالياً»، لأن النظام السوري، بحسب سماحته، «يشكّل خطراً على مصالح إسرائيل في المنطقة»! لكن سماحته بدا انتقائياً في متابعته للصحافة الإسرائيلية! هل مرّ على السيّد تقرير لـ»هآرتس» تحت عنوان «الأسد ملك لإسرائيل»؟ يتحدّث التقرير عن «حالة من القلق يعيشها الإسرائيليون من احتمال سقوط الأسد التي لم يحارب إسرائيل منذ عام 1973 رغم «الشعارات»! هل مرّ على سماحته تقرير آخر لـ»هآرتس» تحت عنوان «الديكتاتور العربي المفضل لدى إسرائيل هو الأسد»؟ وماذا عن أن «الأسد المقاوم» الذي يشكّل خطراً على إسرائيل ومصالحها، أعرب في رسالة خطية عام 2010 عن استعداده للتوصّل الى اتفاق سلام مع إسرائيل! هذا ما قاله حرفياً جون كيري لمجلة «نيويوركر» والذي نقلته الصحافة الإسرائيلية! وماذا عن المعارضة السورية «التكفيرية» التي تعمل على حماية المصالح الإسرائيلية؟ هل يعلم السيّد الذي يواجه «الحرب الكوينية» ان «الشيطان الأكبر» توعّد هذه المعارضة بإبادتها خلال 3 أشهر؟ لماذا؟ لأنها انسحبت من «جنيف 3» ورفضت الشروط الروسية- اإيرانية- الأميركية! هل يعلم سماحته أن «الشيطان الأكبر» قطع الدعم عن «لواء المعتصم» المعارض في ريف حلب الشمالي؟ لماذا؟ لأن هذا الفصيل الذي يتلقى دعماً أميركياً «مشروطاً» بقتال داعش حصراً، صدّ هجوم قوات الأسد و«حزب الله« قبل وصولهما الى بلدتي نبل والزهراء «المقاومتين«!
هذا ليس كلّ شيء. حتى أن السيّد اتّهم السعودية وتركيا ومن خلفهما إسرائيل بالعمل على تقسيم سوريا! من المؤكّد أن شيئاً لا يُكذّب عن الكيان الصهيوني الذي يرتاح في منطقة تعجّ بالدويلات الطائفية المتناحرة. لكن من ينفّذ مشروع التقسيم في سوريا؟ فليخبر سماحته جمهوره المغيّب، عن الصفقة الإيرانية المعلنة لإخراج 40 ألفاً من شيعة الفوعة وكفريا من ريف إدلب باتجاه دمشق ومحيطها مقابل تهجير السنة من الزبداني ومضايا والشريط الحدودي باتجاه الشمال السوري! لماذا هجّر نصرالله، الحريص على وحدة سوريا، أهالي «القصير» والقلمون وحمص، حتى بات الشريط الحدودي مع لبنان خالياً إلا من بعض المجموعات السنيّة المحاصرة الى أن ترفع راية الاستسلام؟
أن يصوّر نصرالله أزمة سوريا بأنها مجرد صراع بين «أصدقاء» إسرائيل من السنة وأعدائها من الشيعة، فهذه قبل كل شيء، جناية طائفية، وإن أتت في معرض اتهام الآخرين بتلك الجناية. خمس سنوات من القصف والموت تحت التعذيب والاغتصاب والترانسفير المذهبي، يخرج بعدها نصرالله ليقنع أهل الطفل حمزة الخطيب بأنه قُتِل وشُوّهت جثته، لا لشيءٍ إلا لأن الحكام السنة يحبون إسرائيل ويريدون «الصداقة» معها ضد المظلومين الشيعة! ليس هذا إلا المضمون الحقيقي للنفخ في كير المذهبية، الذي بلغ حداً غير مسبوق في إلصاق تهمة الصداقة لإسرائيل بطائفة بكاملها، ثم يطرح نفسه مخلصاً للشيعة منها، وللسنة أنفسهم من هذا العار! لا معنى بعد ذلك للتمييز المفتعل بين السنة وحكامهم. هو يعلم تمام العلم موقف الغالبية السنية التي يحاربها ويهدم المدن على رؤوسها، ويستهدفها بمشاريع التهجير الطائفي.