كعادته يبرع «حزب الله» في تحوير الحقائق وحرفها عن مسارها. يُبيح لنفسه ما يُحرّمه على الغير وكأن الدنيا بلياليها السبع قد وجدت لأجله فقط. يختلق الحجج ليبني عليها الأعذار ويصطنع التهديدات ليتهرّب من الحوار رغم إدعاءاته وأطروحاته المتكررة والمملة، واستخدامه تعابير هو في الأصل غير مقتنع بها مثل أن الحوار وحده الكفيل والقادر على منع الدولة من الذهاب إلى الانهيار.
هي عملية توزيع أدوار يقودها «حزب الله» داخل هرميته للتصويب من خلالها على شركائه في الوطن لُيغطي بها عجزه الواضح في الميدان السوري، فكيف إذا كان هذا الدور قد وصل إلى رأس هرمية الحزب السيد حسن نصرالله ليُدلي بدلوه، وكيف إذا كانت المناسبة تتعلق بقائد عسكري كبير في «المقاومة» سقط منتصف الأسبوع الماضي في سوريا بعد أكثر من ثلاثين سنة أمضاها بين جبال الجنوب ووديانه وهو يُلاحق الإسرائيلي من مكان إلى آخر.
أمس شن نصرالله هجوماً على الحكومة لكنه وكعادة قيادات «حزب الله» ركّز هجومه هذا بالتصويب على تيار «المستقبل» متهماً إياه بأنه «يُمنّن» اللبنانيين بمشاركته بالحوار« وبأنه «مُفضل عليهم بهذه المهمة». لكن تبيان الحقيقة لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما اكتشف المستمعون الجهة التي «تمنن» وتدعي حرصها على الوطن وذلك من خلال كلام لاحق لنصرالله قال فيه «إن الأمن في لبنان سببه حزبه«، وليسأل: «لو قدر للجماعات الإرهابية السيطرة على العراق وسوريا ولبنان ماذا كان سيكون مصير هذه الشعوب وهذه المنطقة؟«.
لم يعد هناك أدنى شك بوجود نيات مبيّتة لدى «حزب الله» تجاه الوضع في لبنان وتحديداً الوضع الحكومي، وكأنه مخطط يقضي بإسقاط أهم مؤسسات الدولة الرسمية يعقبه انهيار في ما تبقّى من بنية هذه الدولة خصوصاً أن للحزب سوابق في هذا المجال إمّا من خلال اعتماده طرقاً سياسية ملتوية أو في الشارع، و»القمصان السود» ما زالت تشهد على الحالات التي تفلّت فيها «حزب الله» من عقاله وانقلب من خلالها على الشرعية والدستور والأعراف في البلد.
بعد ادعائه الحفاظ على وحدة البلد وضرورة الإبقاء على حكومة الرئيس تمام سلام بعيدة عن التهديدات والتلويح بفرط عقدها، استعاد نصرالله أمس لغة التهديد والوعيد بتطيير الحكومة قائلاً: «لا نقبل أن يكون الحوار منّة من أحد، كذلك لا نقبل المنّة منهم في أنهم يشاركون في الحكومة«، وكأن الأخيرة تحولت إلى إحدى ممتلكات الحزب أو مؤسساته بحيث أصبح هو من يُقرّر متى تكون ضرورة وطنية ومتى تصبح غير مجدية أو منتهية الصلاحية، وهذا ما يظهر أيضاً من خلال استعلائه في كلامه حول طاولة الحوار والحكومة معاً «نرحب بمن يريد البقاء في الحوار أو بمن يريد المغادرة ومثلها في الحكومة«.
يتوجه نصرالله إلى «المستقبل» بالقول «إذا كنتم تشعرون بالإحراج من البقاء في الحكومة، فالله معكم«. بعد هذا التواضع الواضح والفاضح في آن، لا بد أن يتساءل اللبنانيون عن سر هذا التصعيد المستمر منذ فترة غير قصيرة وما إذا كان يخفي في ثناياه إنقلاباً على الشرعية. أما في الإحراج ونوعيته فيُمكن التحدث في هذا الشق بلا حرج. يعلم الحزب تماماً أن المرحلة التي يمر بها اليوم هي من أكثر المراحل الحرجة التي مرت عليه منذ انطلاقته في العمل العسكري أولاً والسياسي ثانياً، ففي غضون فترة أقل من سنتين خسر الحزب أكثر من ألف ومئتي عنصر في سوريا بينهم ما يقل عن مئة وخمسين قيادياً، يُضاف إلى هذه الأزمة، عقدة أخرى تظهر في عدم قدرة الحزب السيطرة على أي من القرى أو البلدات التي يخوض معاركه فيها بدءاً من «جرود عرسال» و»القلمون» و»الزبداني» رغم وعود النصر التي آكل الدهر عليها وشرب.
في المُحصّلة، يجد «حزب الله» المربك والمُحاط بأزماته نفسه اليوم، كما وجد نفسه أخيراً على أرضية واحدة مع الإسرائيلي وضمن مشروع واحد تحت عنوان «مكافحة الإرهاب»، أمام احتمالين لا ثالث لهما. إمّا أن يخترع حرباً جديدة «مموهة» مع إسرائيل يمكن أن تحفظ له ما تبقّى من ماء الوجه، وإمّا أن يسعى إلى تعطيل عمل الحكومة بأشكال متعددة ومتنوعة، وهو الذي بات خبيراً غير «مُحلّفاً« في المجالات هذه، ويبدو فعلاً أنه قد بدأ يتحضّر ويُعد العدّة للكشف عن أوّل خططه المتعلقة بالاحتمال الثاني.