بعد أربع جلسات من الحوار المطول بين «تيار المستقبل» و «حزب الله»، لا يزال الجالسون على مائدة الرئيس نبيه بري يبحثون في «مقاسات» وحجم الصور واليافطات المفترض نزعها من الطرقات، لتنزع معها فتيل التشنج من الشارع.
ومع ذلك، فإنّ الفريقين راضيان عن أدائهما، ومتحمسان لإكمال المسيرة، حتى لو كانت سلحفاتية المسار. ففي هذا الوقت الضائع لا مجال لنتائج مبهرة ولا لقرارات مفصلية، وبالتالي من الأفضل اللجوء إلى الصياغات الواقعية، المتواضعة.
قد يكون واحداً من العوامل المساندة لهذه اللقاءات، هو «التناغم» الحاصل بين الشخصيات الجالسة على الطاولة المستديرة. إذ حتى اليوم، لم يسجل أي صوت نشاز من شأنه أن «يكهرب الجو» أو أن يفسد للود المرتقب، قضية.
على جانب الفريق الأًصفر، يلعب الثلاثي أسلوب «ثلاثة بواحد»، حيث يفترض أنّ الحاج حسين خليل هو المتقدم بين متساويين. وفي الجانب الأزرق، نادر الحريري قلب وعقل الشيخ سعد، بينما نهاد المشنوق الأكثر حماسة للحوار ولهذا نجح في احتواء أي تصعيد مفترض، ونال تقدير الجالسين قبالته. أما سمير الجسر فهو وجه طرابلس المعتدل.
حتى الآن، انقضت أربع جلسات. وتيرة لا بأس بها تشي بأنّ ما يحصل على الطاولة السداسية يسلك طريقاً مفتوحة، لا تخلو من العقبات ولكنها محمية بإرادة الفريقين ورغبتهما بتجاوز كل العراقيل. وهذا ما يسهل المهمة ويدفع إلى مزيد من التقدم.
بالنسبة لـ «حزب الله» الحاجة إلى التهدئة الداخلية، هي مستدامة ولا مهرب منها طالما أنّ «الخنادق» مشرعة خلف الحدود. وبالتالي هو معني بإنجاح أي مبادرة من شأنها إرساء الهدوء والاستقرار الداخلي.
أما على المقلب «المستقبلي» فقد صارت الخيارات ضيقة جداً بعدما فتح تنين «التطرف» فمه وراح يأكل الأخضر واليابس. ما يحصل في مناطق الأطراف شمالاً وبقاعاً زاد من الخشية في نفوس «الزرق» ودفعهم إلى إعادة النظر بكل المقاربات التي صيغت منذ بدء الأزمة السورية. فنيران التشدد والإرهاب راحت تلتهم كل ما حولها، وكان لا بدّ من وضع «استراتيجية دفاعية» توقف هذا المد. بتعبير آخر، كان لا بدّ من صمامات أمان، لا يمكن أن تنشأ إلا بالتفاهم مع «حزب الله».
ولهذا فإن أبرز إنجاز «غير مكتوب» تمّ التوصل إليه من الحوار، وفق بعض «المستقبليين» هو احتواء القدرات العملانية لقوى الإرهاب السوداء. صحيح أنّ هذا الفريق اختار المسار الحواري في لحظة إقليمية اعتقد خلالها أنّ منفذاً إيرانياً – فرنسياً قد فتح من شأنه إخراج الرئاسة من عنق الشغور، وتبين له في ما بعد أنه مجرّد مناورة سرعان ما قطعت أوصالها… إلا أنه بات مقتنعاً أنّه لا مفرّ من الحوار.
هكذا، عجز اعتداء القنيطرة عن فرملة هذا المسار، أو حتى تعطيله، بعدما تيّقن الفريقان أنّ كليهما يسعى إلى تحقيق نتائج جدية وملموسة بعيدأً عن الخطابات الخشبية التي ملّها اللبنانيون. ولهذا صار بالإمكان لهما أن يفاخرا أنّ أولى خلاصات نقاشاتهما المطولة، كانت تحقيق نتيجتين مرضيتين: إعادة بناء جسور الثقة بينهما ولو أنها لا تزال في طوابقها السفلية، وضبط مسببات التشنّج.
وبالفعل، فمن تسنّى له إجراء مقارنة سريعة بين مناخ الجلسة الأولى والرابعة، أدرك أنّ المسار الحواري محميّ بقبة حديدية ستحول دون انفراطه سريعاً. كان من الطبيعي أن يكون «السلاح ملقناً» في أول «مواجهة» تحصل بين المتخاصمين منذ إخراج «حزب الله» لسعد الحريري من البيت الأبيض الأميركي «عاريَ الرئاسة».
كان الفريقان متأهبين نفسياً ليكون كل منهما في موقع الهجوم تارة، وفي الدفاع تارة أخرى. هكذا استحضرت كل محطات الخلاف والتوتر بينهما وشحذت السكاكين للأخذ بالثأر… ولكن في الجلسة الثانية كانت النفوس قد هدأت كلياً، ووضعت جردة الورقة والقلم جانباً، وراج الحديث باتجاه البحث عن آليات التفاهم، بعد تهدئة الجمهورين طبعاً.
من هذه الزاوية الباحثة عن التهدئة، وجه «المستقبليون» في أولى النقاشات أصابع الاتهام إلى «سرايا المقاومة» باعتبارها من أدوات التحريض التي تثير النعرات والحساسيات، في إطار مطالبتهم بسحبها من الشارع.
فكان الردّ بأنّ هذه المجموعات هي فصيل من فصائل المقاومة له دوره ووظيفته، سائلين عن جردة الإشكالات التي افتلعها عناصر «السرايا» لمحاسبتهم. وانتهى الحديث بتأكيد قياديي «حزب الله» بأنّ هذا الاتهام ليس في محله، وعمل «السرايا» هو من ضمن حرية العمل السياسي، وأقفل النقاش من دون اتفاق أو خلاف حول هذه النقطة.
صحيح أنّ جدول الأعمال لا يزال في بنده الأول المتصل بتخفيف الاحتقان والتشنج، الذي يفترض أنّه الأسهل بين رفاقه، لكن مجرد الدخول في زواريبه، قد يصعب الخروج منها بسهولة، حيث تبيّن أنه موزع إلى ثلاثة فروع: الإعلامي، الشارع، وخطب المساجد.
طبعاً، بعض هذا التوتر ما كان بحاجة إلى مجهود مفتعل كي يخف منسوبه. مجرد الإعلان عن بدء المسار الحواري بين الخصمين ترك ارتياحاً لدى القواعد الشعبية التي بدت أنها بحاجة إلى هذا «المهدئ»، من دون أن يعني ذلك عدم وجود متضررين من هذا الجسر، سواء من داخل «البيت المستقبلي» أو من خارجه «الإسلامي»، راحوا ينكلون به من على المنابر وقد لا تختفي أصواتهم إلا إذا قطع هذا الحوار شوطاً كبيراً من شأنه حينها أن يقدّم.. «الأضاحي».