على نقيض المطالبات المحقة التي تداعى من أجلها المجتمع المدني للنزول إلى الشارع، من تنظيم حملات عدة ومنها «طلعت ريحتكم» تحوّلت الإعتصامات والتظاهرات في وسط بيروت ساحة رياض الصلح خلال الأيّام الماضية إلى ساحة حرب بامتياز بعدما حرّك أصحاب الأجندات السياسية من خلال غرف سوداء عناصرهم وشبّيحتهم بين الناس وعلى الطرق لينشروا في صفوفهم الرعب والهلع وكأنهم في حالة بحث مستمرة عن شعب يستغلّون قضاياه، فيدوسونه ويعبرون فوق جراحه وأوجاعه نحو تحقيق المزيد من المكتسبات.
فترة يومين كانت كافية لأن تتحول فيها مطالب المجتمع المدني إلى أجندة سياسية. أحزاب وشخصيات سياسية استغلت التحركات الشعبية لتدسّ بين صفوفها جماعاتها ومناصريها بهدف تحييدها عن مسارها المرسوم، فاستبدلت شعارات حل أزمة النفايات والكهرباء بدعوات إلى حل مجلسي النواب والوزراء وإجراء إنتخابات نيابية وصولاً إلى حد المطالبة بإسقاط النظام من دون تحديد البديل وكأن الفراغ هو هدفهم المنشود.
وجوه سياسية كان نسيها الزمن بعدما اختفت منذ مطلع التسعينات بفعل إرادة الناس، عادت بالأمس لتسرح وتمرح ولتظهر مجدداً في الساحات، لكن هذه المرة بفعل إرادة الأحزاب المهيمنة والمسيطرة على واقع القرار السياسي والامني. «حزب الله» الداعم الأبرز للحركة الإنقلابية مع حليفه النائب ميشال عون استحضرا رموزا من زمن الحرب الى ساحة رياض الصلح ليُذكّروا اللبنانيين بزمن الفوضى وتفلّت السلاح وبزمن الإنقلابات على الشرعية. شربل نحاس وزاهر الخطيب ونجاح واكيم وميشال الفتريادوس الذين سبقهم تاريخهم إلى الساحة ولحقت بهم دفعات مقسّطة من المد والدعم السياسي وغيره فأدوا قُسطهم للعلى كمرحلة أولية على أن تتبعها مراحل متبقية.
المجتمع المدني بدوره يخشى أن يتحول الى شاهد زور على أحداث دامية لم تكن مُدرجة على لائحة تحركاته. خطفت قوى الثامن من آذار منه لحظات حرية وحولتها إلى مكيدة سياسية ومصيدة مطلبية ضمن أجندة كانت اعلنت أبرز عناوينها يوم نزل إلى الشارع عشرات المؤيدين للتيار الوطني الحر وقبلها مطالبات «حزب الله» والتي تدعو جميعها إلى إسقاط النظام، فكانت الوجهة واضحة وصارمة وهي ضرب وسط البلد «سوليدير» ورمزيته إن بإحراقه أو عن طريق خلع وكسر محاله التجارية بالإضافة إلى السرقات والإعتداء على الممتلكات العامة والخاصة.
تهديد الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله خلال خطابه الأخير طُبق على الأرض، فميشال عون لم يعد وحده وأصبح مُحاطاً بقوتين عظميين، «شعبية« تتوافد بشكل متواصل من الخندق الغميق وعدد من المناطق المحيطة بوسط بيروت، وعسكرية ينظمها أمن الحزب على الطرقات وداخل ساحة المواجهات وهذا ما يتبين من خلال التنسيق بين المجموعات التي تواجه القوى الامنية بحيث تعمد الاولى إلى الهجوم مستنزفة طاقات رجال الأمن لتعود بعدها المجموعة الثانية وتتكفّل بمتابعة الهجوم والهدف واضح وهو الوصول إلى السرايا الحكومية.
من جهة مقابلة ثمة صاعدون جدد على اكتاف اليسار القديم أوقعوا انفسهم في فخ المزايدات، فعلقوا بين مطالب التغيير على الطريقة الديموقراطية وبين براثن سياسيين هم في الأصل تملّقوا مواقفهم حتى صعدوا مواقعهم، حتى ضاعت مطالبهم المحقة في بعض جوانبها بين دعوات التحريض ومشاهد الدماء التي سالت على الأرض وعلى أسرّة المستشفيات، والأمر أنهم شاهدوا وسمعوا بالصوت والصورة هتافات مذهبت الحراك وجيّرته لصالح زعماء يُنتجون بين مرحلة وأخرى محازبين من رتبة «قديسين».
الخوف من تصاعد الأمور بشكل دراماتيكي يُمكن ان يخرج عن سيطرة الجميع، تؤكده حركة البوسطات و»الفانات» التي يستعملها «حزب الله» وحلفاؤه لنقل مناصريهم من مناطقهم إلى اماكن التظاهرات وسط تعليمات حازمة وحاسمة تطالبهم بعدم التهاون مع القوى الأمنية وعدم التراجع والإنسحاب إلا بعد تحقيق جميع المطالب. ومن يراقب كل هذه التحركات لا بد أن يستعيد زمن ما قبل السابع من أيار، يومها بدأ الحزب بحشد مناصريه على الطريقة نفسها أمام المدينة الرياضية ومنطقة الكولا والمزرعة، وما هي إلا أيام حتى أعلن حربه العبثية على اللبنانيين.
مسميات عديدة تندرج ضمن تحركات «المجتمع المدني»، لكن «حزب الله» و»التيار العوني» والحزب الشيوعي وسياسيون سابقون يدورون في هذا الفلك يستغلون شر استغلال شعارات اجتماعية محقة لصالح «أجندات سياسية« صارت واضحة وضوح الشمس.