«الحبيب» يوسع هوامشه بمقاطعة الحوار وزيارة قطر
أكثر من ثلاثين مرة ردد سمير جعجع كلمة «فساد» ومشتقاتها. وهو عندما تعمد تكرارها إنما كان يعرف أنه مهما حاول التوضيح، فإن كلامه سيصيب حليفه الأقرب تيار «المستقبل» قبل غيره. قال بالفم الملآن «ويلٌ لشعب حكوماته عاجزة، فاشلة، فاسدة.. إذ بعد 25 سنة من نهاية الحرب في لبنان، نجد أنفسنا بلا مياه، بلا كهرباء، بلا طرقات كما يجب أن تكون، وبلا خدمات عامة، والآن مع نفايات! في وقت دفعنا كلفة هذه الخدمات أضعافا مضاعفة رتّبت علينا 70 مليار دولار كدين عام، يعني تقريباً 20 ألف دولار على كل واحد منّا».
في ما سبق، لا يحتاج القارئ إلى منجّم ليكتشف أن «المستقبل» الذي أدار، تلك الفترة، الملفات الاجتماعية والاقتصادية بتوكيل سوري سعودي، هو المعني الأول بكلام جعجع. لكن مع ذلك، فإن للنائبين أحمد فتفت وانطوان زهرا رأيا آخر. زهرا يؤكد لـ «السفير» أن «المستقبل ليس المقصود بالفساد، لا رفيق الحريري ولا سعد الحريري ولا الحريرية السياسية، بل المقصود ملفات وليس أشخاصا». وفتفت، بدوره، لا يرى أن الحريرية هي المستهدفة بكلام جعجع، لأنها «غير معنية بالفساد، الذي كان السوريون يديرونه». هو يؤكد لـ «السفير» أنها «وحدها طبيعة النظام الطائفي تفسر الفساد، حيث تتحول الطائفة إلى حائط حماية تمنع محاسبة الفاسدين». وعليه، فإن فساد النظام انعكس على وجوه كل من شارك في السلطة، مذكراً أن حقيبة الطاقة التي تعاقب عليها وزراء من «8 آذار» منذ العام 92 إلى الآن، هي عنوان واضح لهذا الفساد.
لمزيد من التحديد، يصوّب زهرا على «طريقة تشكيل الحكومات الائتلافية التي تتحول إلى محاصصة وتمنع المحاسبة وتمنع طرح الثقة بها أو سقوطها». ليس هذا فحسب، فجعجع مقتنع، كما قال في قداس «شهداء المقاومة اللبنانية»، أن «الطريقة التي كانت تتشكّل فيها الحكومات ليست صالحة لا سيادياً، ولا جمهورياً، ولا أخلاقياً».
سقف رئيس حزب «القوات» بدا مرتفعاً أكثر من أي وقت مضى. وهو بذلك، شكك بحليفه أخلاقياً ووطنياً. كبّله بأصفاد السلطة التي استلمها منذ ما بعد الطائف، لكن انفعاله وحماسته جعلاه ينسى نفسه، فيتماهى مع ثوار القرن الماضي، معلناً «ثورة جمهورية كاملة على كل شيء إسمه فساد، بمعزل عن فريقي 8 و14 آذار، بحيث لن تنقضي الأمور معنا بعدم المشاركة بأي حكومة سوف تتشكل كالعادة، على أسس غير واضحة وبتقاسم مغانم، بل سوف نكون رأس حربة بمعارضة هكذا حكومات لأنّه حكماً ستوصلنا الى هكذا نتائج». جعجع بدا حاسماً في رفضه الدخول في أي حكومة إئتلافية «لأنّه حين يريد الكل المشاركة مع الكل في حكومة واحدة، وحين يوجد سياسيون فاسدون، يصبح الجميع يسايرون الجميع بالفساد، وتصبح الصفقات هي المواضيع الوحيدة التي تكون عابرة للخطوط السياسية، فيتفق أشخاص من 8 آذار وأشخاص من 14 آذار على تقاسم المغانم والمنافع، بمعزل عن الطروحات السياسية المتناقضة لهما.
قد يكون كلام زهرا وفتفت دقيقاً، لكن ذلك لا يعني أن لا مشكلة بين «المستقبل» و «القوات»، بل على العكس: المشكلة كبيرة ومتراكمة، وإن يبقى عنوانها «تحالف استراتيجي عنوانه بناء الدولة»، كما يقول زهرا، الذي يشدد على أن «المستقبل» ما تزال هذه أولويته وإن اختلف الأسلوب.
هذا التحالف الاستراتيجي له مطباته الواضحة والأساسية، التي بدأت مع «القانون الأرثوذكسي» الذي أيده «القوات»، خلافاً لرغبة حليفه، قبل أن يعود ويتراجع عنه، وتفاقمت مع تشكيل الحكومة الأخيرة، التي دخلها «المستقبل» بدون حليفه، بعد أن اضطر إلى التراجع عن رفضه الجلوس على طاولة واحدة مع «حزب الله»، وتترسخ أكثر مع طاولة الحوار التي يدخلها «المستقبل» أيضاً بدون حليفه.. ولكن هذه المرة مع تراجع عن الموقف الموحد أو الرأي المشترك الذي اتفقا عليه، خلال مرحلة جس النبض، التي سبقت إعلان الرئيس نبيه بري رسمياً عن مبادرته.
وإذا كان الحريري قد عاد وأيد الحوار لأسباب غير مقنعة بالنسبة لـ «القوات»، التي لا ترى فيه سوى فرصة للتخفيف عن «فريق مزروك»، فإن جعجع وجد في ذلك فرصة لتوسيع هوامشه السياسية، خاصة أن حليفه المستقبلي يدرك أن طاولة الحوار لن تقدم أو تؤخر في الملفات العالقة، وإن يؤمن أنها بالشكل صارت ضرورة، أولاً بسبب ضغط الرأي العام، وثانياً لأنه في ظل الوضع المأزوم، رأى الجميع أن هنالك «ضرورة لشراء وقت بانتظار الانفراجات الإقليمية».
لم يكن جعجع مقنعاً عندما أكثر من التحدث باسم الشهداء، ولا عندما تصرف بأقوال لجبران خليل جبران، لكنه بدا حاسماً في إصراره على توجيه رسالة واضحة إلى حليفه الاستراتيجي بأنه ليس تابعاً، فهو حالة قائمة بذاتها، باعتراف السعودية نفسها، التي كرّمته باستقبال لم يسبق له مثيل. يعرف جعجع جيداً أنه ما يزال حتى إشعار آخر حاجة سعودية، ويتصرف على قاعدة «عرف الحبيب مكانه فتدلل»، التي تعطيه هامشاً للمناورة في الأمور الداخلية، طالما أنه لا يهادن في انتقاد «الدويلة التي تعطّل الحياة السياسية الطبيعية».
سعد الحريري نفسه دافع عن قطر بقوة عندما لمح وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى وقوفها خلف الحراك المدني، مشيراً إلى أن «الشائعات التي تزج باسم دولة قطر في الأحداث اللبنانية مجردة بالتأكيد عن أي صلة بالحقيقة». وعليه، فإن أحداً لا يمكنه أن يضع زيارة جعجع إلى الدوحة في خانة مواجهة السعودية. علماً أن الزيارة، على حد تعبير زهرا، لا تخرج عن إطار العلاقة المستقلة التي نشأت بين «القوات» والدول العربية، والتي يشدد على أنها لم تمر يوماً بالحريري، كما يتصور البعض. يشير زهرا بوضوح إلى أنه «في السابق كان التحالف مع المستقبل أشد، بما كان يوحي للبعض أن العلاقة مع السعودية، على سبيل المثال، تمر عبره. لكن، الآن وبعد أن غادر الحريري بيروت، وانخفض مستوى التنسيق، تصور البعض أن العلاقة مع الخليج صارت مباشرة، فيما هي كانت دائماً كذلك».