Site icon IMLebanon

عندما تُصبح سيبيريا هي المفر

أي عربي له القدرة على حضور نشرة أخبار الثامنة حتى نهايتها، يُدرك أن حرباً عالمية مجتمعة تدور هنا تحت أسماء متفرّقة حتى الآن: من دارفور إلى حلب، ومن بنغازي إلى الأنبار، ومن عدن إلى عرسال، تتحرّك عشرات الطائرات وتُطلق آلاف الصواريخ، وتنتقل ألوف الدبابات والمدرّعات والسيارات، ويموت ألوف الناس، ويُهاجر الملايين، وينوح الملايين، وتنهار ألوف البيوت، وتُخرب ألوف الطرق، ويُعاق ألوف الأبرياء، وتُغلق المدارس، وتُدمّر المستشفيات، ويظلّ الآتي أعظم.

تتم معظم هذه المآسي في جو احتفالي: أعلام سوداء تُرفع فرحاً فوق رماد البلدان، وشرائط مصوّرة للمجازر، وهُتاف للحرائق في الأقفاص، وخلاف وجيه على تفسير الإرهاب: هل هو القتل بالغاز أم بسكين “الجهادي جون”.

والجهاديون والجهاديات لا يأتون من الشرق إلى أوروبا، بل من بريطانيا وفرنسا وأسوج إلى سوريا والعراق، وحرب الجهاد المقدّس في طرابلس وإجدابيا وبرقة. والجهاديّات (صدام حسين كان يسمّيهن الماجدات) بنوع خاص يُطلقن الزلاغيط على الإنترنت كلما اتسعت المقابر. وكان احتفالهن الأكبر في ذكرى ساديّة 11 أيلول عندما أُحرقت جثث السكان بجثث المسافرين، إذ تمنَّينَ تكرارها في كل مكان.

رسم أول خلاف حول سوريا في مجلس الأمن خريطة الصراع، لكنه لم يُوضح طبيعته. انقسم العالم فريقين: المشروع الأميركي البريطاني الفرنسي، والفيتو الروسي الصيني. وانقسمت الجامعة العربية (اسمها عند التأسيس) إلى قسمين: واحد يطرد النظام وواحد يُعطي كرسيّه للائتلاف. ومع تفاقم النزاع، ظهرت في الصورة الدول الإقليمية بعد الدول الكبرى: السعودية، إيران، قطر، الإمارات، العراق، مصر والسودان، الذي انتقل من تأييد النظام السوري إلى المشاركة مع السعودية في التحالف ضد الحوثيين وعلي صالح.

على الصعيد غير الرسمي، امتلأت الساحة العربية، من باب المندب إلى باب توما، بعشرات الجنسيات، منقسمة كل منها إلى فريقين: أفغان شيعة وأفغان سنّة. طاجيك، تركمان، شيشان، باكستان وكل مكان وكل أوان. في البداية ارتاح الغرب وروسيا والصين إلى ما يجري: بدل أن ينصرف هؤلاء إلى قتلنا، فليتفضلوا بقتْل بعضهم البعض. وبدل أن يكون هاجسهم الكفّار، فليكن المرتدّين والتكفيريين والرافضة والانحرافيين. لكن الفرحة المكتومة لم تطُل. ما لبثت نتائج الصراع أن راحت ترسو على شواطئ أوروبا نفسها. واللاجئون لم يعودوا يأتون من طريق اليونان وتركيا، بل من طريق سيبيريا، التي كرهها الروس أيام القياصرة وفي ازدهار عهد ستالين، وها هم الهاربون يأتون حتى من طريقها. طريق سيبيريا. الأسوأ صيتاً في جحيم التعذيب والعذاب.

تخيَّل أن تكون سيبيريا هي المفر! لكن هذه بابل العصور. وهذه هي حروب الكونغو وليبيريا وسييراليون، لكن ببشرات “بيضاء”. لا وقت للتفاصيل. المهم الآن مَن ينتصر. وقد اختصرت يافطة العونيين في مجد 13 تشرين، أشياء كثيرة: “إجيكن فلاديمير يا بلا ضمير”، مكتوبة بالكسرة الجنوبية بدل فتحة الأشرفية البيروتية. لم يبقَ أحد لم يستدْعه الجنرال ميشال عون في مسيرته الطويلة من اجل إنقاذ لبنان من الحروب والصراعات والهجرات: من فرنسوا ميتران إلى صدام حسين إلى بشار الأسد، والآن فلاديمير، مسجّعاً للبلا ضمير.

العام 1965 أصدر الكاتب البريطاني باتريك سيل مؤلفاً مرجعياً بعنوان “الصراع على سوريا”. من خلاصات الكتاب أن مَن دانت له سوريا، دانَت له المنطقة. تكرّر الصراع على سوريا هذه المرة بأشكال أوسع وأضخم من 1949 عندما دفع بها حسني الزعيم إلى أتون الانقلابات، وعام 1958 عندما أغرَت عبدالناصر بالوحدة، وعام 1963 عندما طرد البعثيون عبدالناصر من العراق والشام، رافعين شعاراته، مقرعين الانفصاليين، عارضين الوحدة على ليبيا والسودان، وعلى العراق المجاوِر، شريك الصراع الأبدي مع دمشق.

لم يلتفت الكثيرون إلى جغرافية سوريا وتاريخها عندما بدا أن الربيع العربي كاسح لن يتوقف. لقد أُسقط بن علي في تونس، والقذافي في جماهيرية الرعب، وحسني مبارك، وبقيت سوريا. قال أوباما لمبارك: “عليك أن ترحل، وأن ترحل اليوم”، فتنحّى. ثم قال ذلك لبشار الأسد.

أنشأت الولايات المتحدة مشروعاً إعلامياً فاشلاً هو “الحرة” التي لا يعرف أحد إن كانت لا تزال أم زالت. بدأت عملاً خاسراً ومتخلّفاً واستمرت. وأنشأ الروس البوتينيون عملاً في غاية الذكاء والحذاقة سمّوه Russia Today أو RT. وهذه المحطة البارعة تعيد كل يوم بثّ كلام أوباما وجون ماكين وهيلاري كلينتون وهم يردّدون تلك الجملة: “على الأسد أن يرحل، وأن يرحل الآن”.

وبعدها، تعرض بالصور أين ضرب بوتين في سوريا وماذا أصاب. أيضاً نوعية فيديو متفوّق على الأميركيين. وما من مذيع روسي على RT… جميعهم أميركيون أو بريطانيون بلهْجات واضحة غير ثقيلة وغير مُثقلة بالخنَّة السلافية. وجميعهم محترفون وليسوا من هُواة “الحرة” التي لا ظهرت ولا صمدت، في حين نجحت الـ “بي. بي. سي” بالعربية و”فرانس 24″ إلى أبعد مستوى مهني واحترافي.

في البروباغندا، التي هي نصف الحرب، تقدّم الروس أيضاً. وها هو بوتين يصوّر نفسه على أنه ضحية من ضحايا أميركا، التي رفضت التعاون معه من أجل سلام سوريا! أيها السيدات والسادة الأسرة الدولية، ما هذا الفجور؟ يوم تُعلنون أنكم اتفقتم على عدم التصادم في الأجواء كأنما الموت للآخرين عادي، ويوم تُعلن روسيا للعرب، في بيان رسمي، أنها اتفقت على التنسيق مع إسرائيل في سوريا عندما تضربونها، حاذروا إصابة الروس. فضيحة.

تصوّر لحظة واحدة لو أن أميركا أعلنت في بيان رسمي أنها تنسِّق مع إسرائيل في العمليات فوق سوريا! لكن بوتين رجل بارع. بارع في رقص التانغو مع إسرائيل، وفي المصارعة الحرة مع الإدارة الأميركية. للمرة الأولى، ثنائي الكرملين، بوتين – لافروف، يتجاوز بمسافات، ثنائي البيت الأبيض، أوباما – كيري. وبعدما كان مستشار الأمن القومي في الماضي هو الرجل الثالث في الإدارة، كيسنجر وبريزنسكي وسكوكروفت، لم يعد يعرف أحد اسمه أو اسمها. وربما لم يعد لها عمل.

لا تستطيع أن تبني سياسة على قرار متخذ سلفاً. عندما تبلِّغ خصمك كل أوراقك، من الغباوة أن تتوقّع منه أن يكشف هو أيضاً أوراقه. أوباما وصل إلى المعركة رافعاً يديه معلناً أنه بطل الانسحاب. بوتين جاء بـ”السوخوي”، التي جرى الاحتفال بذكراها على طريق بعبدا. غاب عن الحفل المجيد سجناء ذلك النهار ومشرّدوه وأرامله. النسيان والنكران لا يستحيان. وأهل القرى كانوا يقولون، باستسلام لسخريات القدَر: راحت عَ اللي راح.

هذه فولكلوريات لبنان. أما في الأعماق، أعماق الوطن وأعماق الأمة، فـ”المسألة الشرقية” في أسوأ مراحلها منذ انهيار الامبراطورية العثمانية. عدوى التفتّت بالعنف والغريزة، قد تنتقل إلى تركيا الحديثة، حيث أقام رجب أردوغان أنجح تجربة حُكم إسلامي مُعاصر، وحيث أحبط رجب أردوغان التجربة. والسبب واحد دائماً: شهوة البقاء حتى بعد انتهاء الصلاحية.

مَن في طبعه ديكتاتور لا يعرف، أو لا يُقرّ، بطبيعة الحياة وطبائع البشر. حيث تضبط الديموقراطية شهوة الألوهة في الناس. يذهب العظماء إلى منازلهم الريفية عندما يَحين الأوان وتعبّر الناس عن رأيها في صناديق الاقتراع: تشرشل، ديغول، تاتشر وسائر الكبار.

في بابل العصر هذه، يتحالف أردوغان مع أميركا، ويُحارب حليفتها الأولى، الأكراد. وبدل الجيوش، تتزعّم الميادين “البشمركة” و”حزب الله” والحشد الشعبي. إنها حرب جميع الأقليات وجميع الأكثريات. وحرب، أو حروب فلاديمير بوتين، الذي يُعتقد أنه أكثر حكّام الكرملين تفرّداً بالقرار منذ ستالين. لا مكتب سياسي (بوليتبورو) ولا حكومة ولا حكم ثلاثي، ولا حتى رئيس وزراء نعرف اسمه أو نتذكّر وجوده.

طُرق مسدودة وجحيم مفتوح. دول كبرى تصغُر أحجامها ودول إقليمية تندفع في كل اتجاه. ودول كانت رمز الصلابة تتفكّك بلا توقّف. ولدى “التيار” ما يحتفل به حقاً: وطن سعيد ودولة آمنة.

كان عمرو بن العاص مرة في مجلسه عندما رأى رجلاً عجوزاً يقوم وقد تكوّمت عباءته خلفه. فما كان من فاتح مصر إلا أن قام وأصلح للرجل عباءته. فاستهجن الحاضرون وهمهموا، معترضين. فقال لهم: يا جماعة ما الذي حدث؟ قمت كعمرو بن العاص وقعدت كعمرو بن العاص. تحيّة طيبة إلى الجنرال شامل روكز: دخل الجيش كضابط وخرج كضابط. أهلاً بأمثالك في الحياة المدنية، ففيها نقص شديد.