هذه هي لحظة معالجة الازدواجية الدولية والدولتيّة حيال “داعش”. إنه الموضوع الرئيسي في هذه اللحظة. كانت تلك الازدواجية من أربعة أنماط تختلف باختلاف الأولوية السياسية والعسكرية.
سأل كثيرون في لندن وباريس ونيويورك، فنانون ومثقفون وسياسيون ورجال أعمال، على شاشات التلفزيون بعد مجازر باريس السؤال البسيط التالي: لماذا لا تذهب جيوشنا إلى أرض سوريا لاستئصال “داعش”؟
فعلاً سؤال بسيط ولن أضع كلمة “بسيط” بين مزدوجين. سؤال كان يجب أن يُطرح في الغرب منذ ظهور “داعش” الصاعق واحتلالها لمدينتي الموصل والرقة.
السؤال من الناحية العسكرية ليس صعباً الإجابة عليه حتى بالنسبة لغير مختصّين. وقد سبق لي بعد احتلال “داعش” لمدينة الموصل أن كتبتُ أن باستطاعة الجيش التركي وحده القضاء على داعش برّيا في 24 إلى 48 ساعة (23 تموز 2014).
ويحتاج المراقب إلى الكثير من “السذاجة” أو الكثير من الارتياب ليسأل بعد تشكيل “تحالف دولي” ضد “داعش” يضم أقوى دول العالم الغربي مدعومةً آنذاك من روسيا والصين: لماذا لم تتم عملية عسكرية برّية لاحتلال الرقة والموصل على غرار ما فعله الرئيس جورج دبليو بوش في تشرين الأول عام 2001 بعد أحداث 11 أيلول من ذلك العام أدى بسرعة ولسنوات إلى توجيه ضربة حاسمة لحركة “طالبان” ومنظمة “القاعدة”؟
ربما تكون فرنسا اليوم بعد مجازر باريس أمام هذا الخيار البرّي: احتلال الرقة، رأس الأفعى والدخول البرّي إلى عمق مناطق “داعش”.
معنويات فرنسا ووراءها كل الغرب ومعظم الشرق بما فيه الشرق المسلم والعربي تتطلّب ردا على هذا المستوى وليس أقل.
لقد تأخّر الجميع، وخصوصا في الغرب عن سلوك هذا الطريق لمواجهة حالة وحشية فتاكة وتحتل علنا أراضي شاسعة في العراق وسوريا تزيد مساحتها عن مساحة سوريا.
المسألة الجوهرية جدا في لحظة ما بعد مجازر باريس وقبلها خلال أيام مجازر أنقرة وشرم الشيخ وبيروت، هي هل سيؤدي الهجوم الرهيب على قلب عاصمة دولة كبيرة مثل فرنسا إلى إنهاء ازدواجية السلوك السياسي لبعض الدول حيال موضوع “داعش”؟
هذا هو سؤال رئيسي بل السؤال الرئيسي في هذه اللحظة. كانت تلك الازدواجية من أربعة أنماط تختلف باختلاف الأولوية السياسية والعسكرية:
1- النمط التركي الذي يمكن تسميته بـ”القومي” والذي يعطي ضمنا للمواجهة مع الحركات الكردية المسلحة أهمية أكبر بكثير مما يعطي للمواجهة مع “داعش”، هذا إذا صفحنا عن ماضي تسهيل المخابرات التركية سابقا لدخول الملتحقين بـ”داعش” من خارج سوريا. وهذه لعبة من المفترض أن تكون تغيّرت بعد تفجيري أنقرة وبصورة خاصة بعد مجازر باريس.
2- النمط الغربي وبعض الخليجي وهو النمط “التغييري” الذي يعطي علنا وضمنا للمواجهة مع النظام السوري بشار الأسد أهمية أكبر بكثير من المواجهة مع التنظيمات الإرهابية بل يدعم بعضها باسم الواقعية السياسية مثل دعمه لـ “جبهة النصرة” ومثيلاتها المتشابهة والمتصارعة. لقد ظهر منذ فترة غير قليلة أن “مجتمع” هذه التنظيمات هو مجتمع واحد يتم فيه الانتقال من تنظيم إلى تنظيم بشكل دائم وبالتالي فإن المشكلة هي، بعدما وصلت الأمور إلى هذا الحد العالمي والشامل، في مواجهة المجتمع الإرهابي لا هذا التنظيم أو ذاك.
3- النمط الثالث “البراغماتي” هو النمط الإيراني وحليفه السوري الذي لعب لأسباب متعلّقة بالدفاع عن نفسه وتأنيب المعادين للنظام على استمرار عدائهم للنظام السوري على ورقة تسهيل خروج عناصر إرهابية من السجون أو لاحقا تسهيل استلام “داعش” لبعض المناطق تحت ذريعة أو ضغط إعادة الانتشار العسكري وضروراته. يجب القول هنا أن هذه اللعبة تضيق هوامشها بعد الدخول العسكري الروسي على الحرب السورية لأن روسيا لا مصلحة لها قطعاً في هذه الازدواجية.
4- النمط الرابع من الازدواجية هو النمط الإسرائيلي الذي ظهر في منطقة جنوب دمشق ومحيط الجولان. إنه النمط الذي يمكن تسميته بـ”الطبي” لأنه قائمٌ على نقل الجرحى إلى مستشفيات إسرائيل، لكن الآلهة نفسها لا تعرف أي قعر من العلاقات يمكن أن يختبئ وراء ذلك.
وحدهم أكراد العراق وسوريا واجهوا “داعش” منذ البداية من دون تردّد ولا ازدواجيّة لأنه لم يكن لديهم أي خيار آخر بعدما أصبحت أربيل عاصمة إقليمهم العراقي مهددة جديا كما أن “ذاتية” أشقائهم أكراد سوريا هي أيضا تهدّدت.
لو لم تكن قمة العشرين مقررةً سابقا كان يجب أن تنعقد بعد مجازر باريس. لكن يبقى الأساس في هذه اللحظات هو السؤال البسيط الجوهري:
هل ستقرّر القيادة الفرنسية، بل متى ستقرّر الهجوم البرّي الاستئصالي على مدينة الرقة لوضع حد جدي لظاهرة “داعش”؟
مرةً أخرى لا يحتاج المراقب إلى خبرة عسكرية ليجزم بأن حجم التفاوت الهائل في الامكانيات العسكرية وطاقة الغرب بل فرنسا وحدها يجعلان الجواب على هذا السؤال واضحا وهو أن بإمكان فرنسا وحدها بل تركيا وحدها في ظرف إجماع دولي وإقليمي أن تستأصل “داعش” برّياً لكي تقف مهزلة القصف بالطيران وحده الذي لم يفعل شيئا في تقرير مصير هذا التنظيم.
افتتحت مجازر 11 أيلول 2001 حقبة ما بعد الحداثة الإرهابية. كانت العولمة، إلى الثورات الرائعة التي ولّدتها في تكنولوجيا الاتصالات والمعرفة والتقدم غير المسبوق في التاريخ التي تجعل من مزارع في أقاصي الريف الهندي أو الآسيوي أو الإفريقي يملك إمكانيات اتصال فردية كان يحلم بامتلاكها رئيس الولايات المتحدة الأميركية في أوائل القرن العشرين… إلى هذه الثورات الرائعة كانت العولمة تنتج وحشا بل وحوشا تهدِّد الحياة المدنية في كل العالم.
في نيويورك 2001، في تلك الصدمة الأولى رفض مسلمو أميركا وعربها تلك الوحشية باسم الدفاع عن إسلام آخر تعايشي ومتسامح يعتبرون أنهم ينتمون إليه ضد إرهابيين أجانب. يبدو لمراقب ردود الفعل على الصدمة الثانية، مجازر باريس 2015، أن مسلمي وعرب فرنسا يدافعون اليوم عن وطنيّتهم الفرنسية أولا ضد إرهابيين فرنسيين، فيما نحن عرب ومسلمو البلدان العربية والمسلمة ندافع عن “لاوطنيَّتنا” في لحظة استنكار هذه المجازر باعتبارها مجازر ضدنا أيضاً سابقا ولاحقاً. وهذه من النتائج العميقة للعولمة الأخلاقية.
احتلّوا الرقّة.