Site icon IMLebanon

متى يرجع السوري؟

غافل الصبي عامل المقهى وتسلل يجول بين الطاولات. تلفّت قلقاً ينتظر قرار طرده. عينان متوسلتان ويد صغيرة ممدودة. انصاع الى رغبة من أشاروا عليه سريعاً بالابتعاد. علّمته التجربة تفادي الإفراط في الإلحاح. ثمة من أشفق وتجاوب. كنت في زاوية المقهى مع الصحف. سألته إن كان يرغب في فنجان من الشاي فرفض. أغلب الظن انه خاف ان يرجع عامل المقهى، وهذا يعني ببساطة التعنيف والطرد.

سألته وأجاب. اسمه أحمد، وعمره تسعة اعوام. قُتِل والده في غارة. نَزَحت والدته مع أولادها الخمسة من قرية في محافظة حمص الى لبنان في رحلة مضنية. رفض الرد بدقة عن مكان إقامة عائلته.

منذ إطلالة «داعش» صار النازح متهماً أو مشروع متهم. صار مخيفاً وخائفاً. بعض البلديات يمنع «تجوّل الأغراب» بعد السابعة مساء. الشبان يتعرضون في أحيان كثيرة لعمليات دهم، خصوصاً إذا كانوا ملتحين.

يقول أحمد إن والده لم يكن محارباً، وإن النار التهمت بيتهم الصغير، ولم يكن أمامهم غير لبنان. لجأت العائلة الى قرية، ثم طُرِدت منها. لم يكن أمامها غير تكرار النزوح. ولم يكن أمامه غير التسوُّل. وإن شقيقاً له يجول في أماكن اخرى. وإن الأماكن صارت اقل وداً، وتتشدد في رفض المتسوّلين. وإنه وشقيقه يسلّمان امهما مساء حصيلة نهار الشقاء الطويل.

يتابع أحمد جولته وعذاباته. حديث اللاجئين السوريين مفتوح بقوة في لبنان حيث يقترب عددهم من مليون ونصف مليون لاجئ. تسمع ان التجارب تشير الى ان عدداً غير قليل من اللاجئين يميل الى البقاء في بلد اللجوء، اذا أمضى فيه اكثر من ثلاث سنوات. وتسمع ان البلدات والأحياء التي فرّ منها اللاجئون لم تعد موجودة، وأن اعادة اعمار سورية تحتاج مئتي بليون دولار إذا توقفت الحرب اليوم. تسمع ايضاً ان يأس اللاجئين يجعلهم هدفاً سهلاً لقوى التطرف. وثمة من يذهب أبعد فيقول إن بقاء مئات الالآف من السوريين في لبنان يشكل اضافة الى العبء الاقتصادي إخلالاً بالتوازن الديموغرافي، خصوصاً بين السنّة والشيعة إذا أخذت أيضاً في الاعتبار وجود نصف مليون لاجئ فلسطيني. وهناك من يميل إلى تحميل السوريين مسؤولية تزايد الصعوبات المعيشية وعمليات الإخلال بالأمن.

كانت عمّان محطتي الثانية بعد بيروت. وجدت موضوع السوريين ينتظرني هناك. مليون ونصف مليون سوري لجأوا الى الأردن. وجودهم يُربك الدولة القليلة الموارد التي استقبلت من قبل نازحين فلسطينيين وعراقيين. ضاعفت موجة اللجوء السوري الضغط على النظام الصحي والنظام التعليمي فضلاً عن شحّ المياه. ظروف النازحين تثير المخاوف من تفشي التطرّف في صفوفهم. طول إقامتهم ينذر بنزاع يومي على اللقمة مع بعض سكان البلد الأصليين.

يميل بعضهم إلى القول إن الانفجار السوري أشد هولاً من الانفجار اليوغوسلافي، وإن سورية التي كنا نعرفها لم تعد قابلة للترميم. لا حاجة الى التفاصيل. قرأت في صحيفة في عمان ان الشرطة ألقت القبض على خلية لتزويج القاصرات السوريات تديرها سيدة سورية. فاقت عذابات السوريين عذابات الآخرين.

كنتُ سمعت الحديث ذاته في اسطنبول قبل أشهر. عدد السوريين في تركيا يوازي عددهم في لبنان، تداخل وجودهم هناك مع التوتر السنّي – العلوي. هناك من يعتقد بأن إصرار اردوغان على المنطقة الآمنة يرمي الى إعادة توطينهم فيها، وعلى أمل التعجيل في إسقاط النظام.

هجّرت الحرب السورية ستة ملايين في الداخل، وقذفت بخمسة ملايين الى بلدان الجوار. عددهم يوازي عدد سكان دولة. ظروف عيشهم مأسوية. المساعدات الدولية تتراجع والبلدان المضيفة تنوء تحت الأحمال. يضاف الى ذلك ان سورية خسرت بهجرتهم جيلاً كاملاً من الشباب وأعداداً كبيرة من المتعلمين والمعتدلين والعلمانيين. خير دليل على يأس السوريين تلك الجثث الضائعة في البحار في محاولة الوصول الى أوروبا عبر قوارب الموت.

متى يرجع السوري؟ الى اين سيرجع ؟ الى أي سورية؟ ومن يعيد إعمار بلدته وحيّه؟ لسنا في نهايات الحرب. سينتظر اللاجئون طويلاً. سيواصل احمد وأشباهه التسوُّل في لبنان والأردن وتركيا والعراق وغيرها. ستغرق سورية أكثر في دمها. سيغرق اللاجئون والنازحون أكثر في يأسهم. وستلتهم البحار مزيداً من جثث السوريين.

متى يرجع السوري الى سورية؟ ومتى ترجع سورية الى سورية؟ سمعت كلاماً مقلقاً من رجل واقعي. قال:» انسَ سورية القديمة، لقد قُتِلت في الحرب. والدليل ان زائراً حمل الى عاصمة كبرى مشروعاً لسورية الفيديرالية».