كان ذلك في سبتمبر (أيلول) 2015 تدفقت أمواج من اللاجئين السوريين على ألمانيا فذهبت إليها في محاولة لجمع بعض روايات الوافدين خصوصاً منهم من جازفوا باستخدام «قوارب الموت» للوصول إلى الملجأ الأوروبي. كانت المشاهد مؤلمة والروايات موجعة.
لم أجد للحلقة الأولى من التحقيق عنواناً أفضل مما قاله لي شاب جاء في رحلة القوارب المحفوفة بالأخطار وبدا الارتياح واضحاً عليه لنجاحه في الاستقالة من وطنه وأهواله. سألته عن وضعه فأجاب: «ممتاز. ثلاث وجبات يومياً، ونوم بلا خوف، ولا بعث هنا ولا (داعش)». وكتبت أن السوريين الذين كانوا يعتقدون أن بلادهم لاعب أساسي في المنطقة يكتشفون اليوم أنها تحولت ملعباً للتدخلات والميليشيات.
نشرت التحقيق وإذ بهاتفي يرن. قال المتصل: «أخي غسان. أنت لا تعرف حجم الألم الذي سببته لي اليوم، وأنت تدرك بالتأكيد صعوبة أن تكون سورياً في هذه الأيام، وأن تكون في الوقت نفسه صحافياً يحدس منذ سنوات أن سياسة القهر تراكم عوامل الانفجار».
كان المتصل الصحافي والكاتب غسان الإمام. قال إن ابتهاج سوري بالعثور على ثلاث وجبات في مركز إيواء في ألمانيا كسر قلبه. واعتبر أن السوريين يتعرضون لإذلال غير مسبوق سواء على أرضهم أو في الخيام ومراكز الإيواء التي يلقون بأنفسهم وعائلاتهم فيها، رغم نبل مشاعر الدول التي تستضيفهم. أعرب عن خشيته من أن يكون ما تعيشه سوريا أكبر من قدرتها على الاحتمال وأن تنتهي الحروب التي تدور على أرضها ليس فقط بأفظع كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية، بل أيضاً بتدمير وحدتها والتلاعب بهويتها.
وأضاف: «أنا لم أتصل بك فقط لأنني تألمت وأنا أقرأ روايات الهاربين من الجحيم السوري. اتصلت أيضاً لأسباب مهنية. أعجبني كسوري أن يبادر رئيس تحرير صحيفة بارزة إلى الذهاب شخصياً لمقابلة اللاجئين، في حين تقضي العقلية السائدة اليوم أن يوكل الأمر إلى أحد محرري الصحيفة. الصحف هي ذاكرة الشعوب. وأخبارها وتحقيقاتها تضع في تصرف المؤرخ لاحقاً معطيات يمكنه الانطلاق منها أو الاستناد إليها بعد التدقيق فيها ومقارنتها. لن تكون لدينا صحافة عربية متطورة إذا اقتصرت طموحات الصحافيين على نقل أجوبة معلبة لمسؤولين مهما كان حجم مواقعهم».
تأثرت باتصال غسان الإمام الذي ينتمي إلى جيل سابق للجيل الذي أنتمي إليه. جيل قرأناه في مستهل عملنا الصحافي واتفقنا معه واختلفنا لكننا تعلمنا منه.
تذكرت ذلك الاتصال حين بلغني قبل أيام خلال سفري أن قلب غسان الإمام قد خانه بعد شهور قليلة من توقف صاحب القلب عن الكتابة.
قبل سنة وحفنة شهور عدت إلى «الشرق الأوسط» وسارع غسان الإمام إلى الاتصال. لكن الأقدار شاءت أن تكون فترة تعميق الحوار والمودة هذه فترة مؤلمة للكاتب الذي أثرى صفحات الرأي في هذه الصحيفة على مدار عقود.
ثمة تفاصيل من حق قراء غسان الإمام أن يعرفوها. في الشهور الأخيرة من العام الماضي اتصل بي. قال إنه متعب ومصاب بالسرطان ويريد التوقف عن الكتابة. شعرت بالارتباك. لكنني خشيت أن أشجعه على التوقف خوفاً عليه. كنت أعرف أنه يقيم وحيداً مع الأوراق والأقلام والخيبات والذكريات. وحين يقول كاتب مريض إنه يريد التوقف عن الكتابة فهذا يعني أنه يريد التفرغ لانتظار النهاية. قلت له إنه ليس من حق الكاتب أن يستقيل. وإنني أطالبه بالاستمرار وأفعل ذلك بصفتي قارئاً قديماً لمقالاته لا بصفتي رئيس تحرير الصحيفة. وبعد نقاش وافق على الاستمرار.
في الأسبوع الأول من السنة الحالية أرسل مقاله الأخير. اتصل وقال: «صارت الكتابة بالنسبة إلي تعذيباً لا أقوى على احتماله. لا أخفي عليك أنني دخلت الفصل الأخير». قاطعته محاولاً حرف الحديث في اتجاه آخر. لكنه أصر. قال: «هذا مقالي الأخير لم تعد لدي القدرة. أتمنى عليك أن تتخذ الإجراءات الإدارية المناسبة لهذه الحالة». وكان ردي أن علاقة «الشرق الأوسط» بكتابها لم تكن يوماً أسيرة إجراءات إدارية. وأن الصحيفة تعتز بمن أضاءوا صفحاتها وبينها وبينهم عقد وفاء متبادل هو أهم من بنود عقد العمل.
لم يكن أمامي غير الموافقة على طلبه بالتوقف عن الكتابة. تمنيت عليه أن يطلّ على القراء حين تسمح ظروفه الصحية فأجاب: «يبدو أن ليس أمامي سوى بضعة أشهر. في أي حال كانت (الشرق الأوسط) دائماً بيتي ونافذتي وشرفتي. لم أكتب فيها إلا لقناعتي في معركتي الطويلة ضد الظلم والتسلط. ربما بالغت أحياناً. وربما جرحت أحداً من دون قصد. لم أتعمد إيذاء أحد لكن الظلم كان طويلاً وقاسياً».
كان غسان الإمام من ذلك الجيل الذي ارتكب أحلاماً كبيرة. أحلاماً لبلاده وأمته ومهنته. أحلاماً بالعدالة والحرية معاً وما أصعبهما في جمهوريات الخوف والقلق والقسوة. وكسائر أبناء جيله رأى أحلامه تتهاوى وكلما حاول التحصن بقلعة اقتلعتها الريح. وكان يكتب ناقداً وناقماً. وكنا نتعرف عبر مقالاته على المخاض العربي الصعب خصوصاً في الخمسينات والستينات. وعلى العلاقات الشائكة بين البعثيين والناصريين. والعلاقات القاتلة بين البعثيين والبعثيين وبين الجنرالات والمدنيين. وكان في زاوية «أصداف ولآلئ» يحول البروفايل لوحة بالكلمة الملونة والجارحة وببراعة الصياد المتمكن من خفايا الطائر المستهدف ولغة الصيد والتوقيت.
ما أصعب أن يعتذر كاتب عن إرسال مقاله لأن جنرال الظلام يفتك بأحشائه ويتقدم لقطع خيط الود والضوء الذي يربطه بقرائه.