IMLebanon

عندما يكون الاقتصاد مصلحة قومية! 

تعمل الولايات المتحدة بكل وسائلها السياسية والاقتصادية والإعلامية والاستخباراتية، بل والعسكرية من أجل أن تبقي للدولار السيادة الكاملة على الإقتصاد العالمي وبوجه خاص على تجارة النفط العربي الذي تستورده مجاناً مقابل ورق لم يكلفها غير تكلفة طباعته.

ومن المعلوم بأن الانخفاض الحاد لليورو سوف يؤدي إلى موجة طويلة وضارة من الإنكماش المالي في منطقة اليورو وهو ما يمكن أن يهدد بدوره بتكرار أزمة الديون. وبينما تنحدر الدول الأوروبية الأضعف إقتصاديا شيئا فشيئا نحو حافة الهاوية، يتصاعد التوتر داخل أعضاء الإتحاد الأوروبي الأفضل حظا في النمو الإقتصادي. حيث ينعت الإيطاليون جيرانهم الألمان بالأنانية في حين عبّر ممثلو فرنسا وألمانيا عن استيائهم من الإسراف والتبذير الذي تمارسه الدول الأقل حظا في الرخاء الإقتصادي بين جيرانهما الأوروبيين. ولاحتواء تدهور قيمة اليورو ومنع الإنكماش الإقتصادي وإلغاء صورة التضخم في المنطقة وافق البنك المركزي الأوروبي على اطلاق برنامج للتيسير الكمي يطبع بموجبه نحو 60 مليار يورو إبتداء من شهر آذار وحتى أيلول من العام الحالي وذلك لشراء السندات السيادية. ومع هذه التكاليف الباهظة المتوقعة للدعم المالي فإن الغرض الأساسي هو حماية اليورو من الإنهيار. وإذا حاولنا إجراء مقارنة بين تبعات الأزمة المالية الحالية في الولايات المتحدة والمشاكل التي ينوء بها الإتحاد الأوروبي يمكن عندها تناسي الحالة الأميركية, خاصة مع الوضع الإقتصادي العالمي الذي يزداد سوءا وتعقيدا، حيث أن الجهود المبذولة لتوحيد أوروبا ستواجه تحديا عصيبا.

الأزمة الراهنة التي يمر بها الإتحاد الأوروبي هي نتاج التفاؤل المفرط الذي غمر دول أوروبا الساعية للإتحاد بصرف النظر عن المصاعب التي رافقت عملية ولادته. فشعور الأوروبيين بأن العملة الواحدة توحدهم تبدو للبعض ساذجة، وإن فكرة جمع دول متباينة تحت مظلة عملة موحدة لا يشكل في نظر أولئك البعض هدفا يستحق كل هذه التكاليف. لكن عند النظر إلى سجل دول السوق المشتركة قبل صدور اليورو وبعده نلاحظ بأن الإتحاد النقدي قد نجح بالفعل.

وإذا ما استمر التوتر بين أعضاء منطقة اليورو، فإن الوحدة الأوروبية ستكون بعيدة المنال, لذلك فقد أعدت دول منطقة اليورو لنفسها اتحادا ماليا أوروبيا، وهي المؤسسة التي وضعت الدول الأعضاء في العملة الموحدة أمام مسؤولياتهم، وخاصة تلك الدول الأضعف إقتصاديا، حيث ألزمها بضوابط صارمة في إعداد ميزانياتها المالية. وقد ورد في تلك الإجراءات، أن لا يزيد العجز في الميزانية للبلد عضو اليورو عن 3% من ناتجه القومي الإجمالي، وفي حال تجاوز تلك النسبة يتعرض أوتوماتيكيا للعقوبات. وبموجب الإتفاق الذي وافقت عليه دول الإتحاد الأوروبي في توفير مبلغ يصل إلى 200 مليار يورو ليكون متاحاً لصندوق النقد الدولي لمساعدة دول الإتحاد في حال حاجتها إلى دعم مالي. وفي رأي عدد من السياسيين والإقتصاديين أن اليورو سيستعيد قوته المالية ليصبح العملة الأقوى في العالم إلى جانب الدولار والين الياباني، وأن بريطانيا قد تفقد مكانتها وتأثيرها السياسي والإقتصادي في الإتحاد الأوروبي إذا ما بقيت خارج العملة الأوروبية الموحدة.

لكن محللين آخرين يتوقعون أوضاعا أكثر صعوبة سوف تواجه اليورو في الأشهر القادمة. ويتوقع أقصى اليمين في الولايات المتحدة وأوروبا، وخاصة في بريطانيا وسويسرا بأن اليورو سوف يواجه انهيارا كليا، ويدفعون بالرأي العام الأوروبي في دول الجنوب للتخلي عن اليورو، كمخرج لهم من المشاكل الإقتصادية التي يعانون منها. ونتيجة لذلك تبث الأخبار والتقارير ويروج لفكرة إنهيار وشيك للنظام المصرفي في كل من البرتغال وإسبانيا وإيرلندا واليونان وربما إيطاليا. وقد انتشر الذعر بين مواطني تلك الدول وخاصة إسبانيا لأن المصارف ستكون عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاههم في حال إنهيار اليورو، مما دفع الكثير من المودعين لسحب أموالهم منها وتبديلها إلى الدولار الأميركي أو الفرنك السويسري.

أزمة الدين العام وعجز الميزانيات المالية السنوية لبعض دول منطقة اليورو رغم بعض الحلول الجزئية التي تم التوصل إليها بخصوص اليونان وإيرلندا والبرتغال ما تزال قائمة، وهناك مشكلة الديون الإيطالية والإسبانية التي في طريقها للتفاقم، وستحتاج إلى قرارات صعبة، ربما أصعب كثيرا من تلك التي اتخذت تجاه الدول الثلاث المذكورة. فأمام إيطاليا مهمة توفير 48 بليون يورو قبل نهاية شباط القادم، ويتوقع أن لا تكون قادرة على توفيرها قبل ذلك التاريخ، وهو موعد إستحقاق فوائد وقيم سندات حكومية أصدرت في مواعيد سابقة. ولا تبدو اليونان في ظل وضعها السياسي والإقتصادي الراهن أنها في طريقها لتلتحق بعربة النمو المتوقفة منذ أمد، رغم الدعم المالي الذي قدمته لها شريكاتها في الإتحاد الأوروبي، ومن المحتمل جدا أن تعلن عدم قدرتها على دفع قيمة سنداتها المالية والفائدة المستحقة عليها، ما يعني إعلان الإفلاس. إسبانيا هي الأخرى تعاني من العاهة نفسها التي تشكو منها أيضا إيطاليا وإيرلندا والبرتغال.

أما عن اسباب هبوط اسعار النفط وتأثيرها المباشر على اليورو, فذلك له تأثير مباشر لأن الدول تشتري النفط من البلدان العربية المنتجة وهم مضطرون للاحتفاظ بالدولار لدفع اثمانه. والمغزى الإقتصادي هنا لجهة تحديد سعر النفط بالدولار الأميركي هو لترسيخ هيمنة الدولار في العالم. لهذا فإن بقاء القوة الأميركية مرهون باستمرار بيع النفط فقط بالدولار الأميركي. من الناحية الأخرى إن احتياطيات النفط في العالم تسيطر عليه الولايات المتحدة وهي موزعة على مساحات واسعة من بلدان العالم، وليس بينها من له القوة الإقتصادية والعسكرية الكافية ليطالب الولايات المتحدة بتسعير وشراء النفط بعملات أخرى غير الدولار. وإذا ما طالب أحد البلدان النفطية بعملات أخرى غير الدولار، فعليه أن يتوقع عاصفة هوجاء من النظام المالي العالمي سوف تهب على مؤسساته المالية.

وهذا ما حصل مع العراق حينما طالب باليورو بدلا للدولار كمدفوعات مقابل النفط في عام 2000. لقد قوبل طلبه في البداية بالسخرية ثم بالتجاهل، وعندما اتضح فيما بعد أنه طلب بأن تكون أموال صندوق النفط مقابل الغذاء لدى الأمم المتحدة باليورو وحينها كانت حوالي مئة مليار دولار, فقد تزايد الضغط عليه لتغيير موقفه المعلن. بلدان أخرى مثل ايران طلبت بدفع أثمان مبيعات نفطها باليورو والين الياباني. فإذا الخطر الذي يواجه الدولار واضح وقائم، لذا كان الأمر حاسماً لاتخاذ موقف من قبل الولايات المتحدة وأمرا ملحا لرفع قيمة عملتها المحلية مما تعتبره أمنا قوميا.

لكن المهمة لم تنجز تماما، فالخطر الذي يهدد سلطة الدولار ما زال قائما، فلم يكن العراق إلا حلقة واحدة من السلسلة التي تضيق الخناق على الدولار، فإيران على ما يبدو أصبحت الحلقة الثانية، فهي تباشر منذ أمد بقبول اليورو في مقابل صادراتها من النفط والغاز، إضافة إلى تحويل إحتياطياتها النقدية إلى سلة من العملات الصعبة ليس بينها الدولار. والأشد خطورة هو إقامتها بورصة لتجارة النفط في جزيرة كيش الإيرانية في الخليج العربي، وتعاملت بمختلف العملات كاليورو والين الياباني واليوان الصيني والروبل الروسي والريال الايراني. وفي 13/7/2011 بدأت إيران بالفعل التجارة في البورصة التي أقامتها، حيث عرضت نفطها مسعرا بالدولار، ولأن إيران تخضع لعقوبات منذ 1979 من قبل الدول الغربية بضغط من الولايات المتحدة، فلم تعقد أية صفقات كبيرة معها, مما جعل الوضع الإيراني الداخلي أكثر تعقيدا وتشديد العقوبات عليها في السنتين الأخيرتين من قبل الولايات المتحدة وأوروبا، مما جعل من الصعب على أي جهة عقد صفقات مع الشركات الإيرانية سواء كانت عمليات مصرفية أو خدمات النقل والتأمين البحري. لكن لم تلتزم كل الدول بالعقوبات، فالصين تتزود حاليا بمليوني برميل يوميا من النفط الإيراني، أي حوالي 15% من احتياجاتها من النفط المستورد، تليها الهند بحوالي نصف مليون برميل يوميا. يتم تسوية الحسابات بين إيران والدول المستفيدة عبر المصارف التركية والإماراتية، لكن مثل هذه الوسائل تثير غضب الولايات المتحدة وإسرائيل، وقد لا تستمر تلك البلاد بالقيام بهذه التسهيلات خوفا من المقاطعة الغربية لها.

تحول إيران عن الدولار الأميركي إلى اليورو والين الياباني في الوقت الذي يواجه الدولار وضعا حرجا، قد يكون سببا لانهياره كعملة رئيسية للاحتياطيات النقدية العالمية. وإذا قام مستهلكون ومنتجون للنفط بالتعامل في تجارة النفط بغير السوق المفتوحة كالبورصة الإيرانية أو التعامل بعملات أخرى غير الدولار، فسيكون كل بلد منها قادرا على بناء إحتياطه النقدي بسلة من العملات تتحاشى بها الاضطرابات الملازمة للدولار، مما يجعل إقتصادها أكثر إستقرارا وقد يكون السيناريو بالأمثلة التالية:

1- سيكون الأوربيون غير ملزمين بشراء أو الاحتفاظ بالدولار الأميركي من أجل تأمين مدفوعاتهم عند شراء النفط، وسيكون بمقدورهم شراء النفط بعملاتهم المحلية أو باليورو.

2- اليابانيون والصينيون سينتفعون من شراء نفطهم من البورصة، لأنهم سيتمكنون من تخفيض إحتياطاتهم النقدية الضخمة من الدولار والتوجه ناحية اليورو، وبذلك يتحاشون الاضطرابات التي يتسبب بها انخفاض قيمة الدولار في السوق الدولية.

3- وللروس وبلدان أميركا اللاتينية أيضا مصلحة إقتصادية في استخدام اليورو بدل الدولار، لأن معظم تجارتهم تتم مع أوروبا. وحيث باشر الروس منذ عهد قريب بالتخلص من الدولار كإحتياطي نقدي، وتتوجه روسيا نحو حيازة المزيد من الذهب بدلا عنه. من جانب آخر ستتمكن روسيا من إجراء المبادلات التجارية مع كل من الصين واليابان باليورو. وأمام تصاعد الشعور القومي داخل روسيا فقد برز اتجاه التقارب مع أوروبا على حساب الولايات المتحدة بالتخلص من الدولار عبر تبني اليورو كعملة داعمة للعملات المحلية.

4- الدول العربية المصدرة للنفط سيكون من مصلحتها التحول إلى اليورو للتخلص من العملة الأميركية المتذبذبة في الأسواق العالمية. وهي كروسيا تجارتها مع أوروبا والشرق الأقصى والهند على تصاعد وهي لذلك تفضل عملة اليورو المستقرة على الدولار المتقلب.

فهل ستسمح الولايات المتحدة لإيران بأن تنجح بمخططها؟

 الاجابة: لا بالتأكيد، ففي ظل التوازن الدولي الجديد، لن تخشى الولايات المتحدة, روسيا والصين اللتين لهما علاقات ومصالح إقتصادية وفنية وسياسية وثيقة مع إيران، ومع أن إيران تستورد أسلحة من الدولتين لكن ليس هناك تحالف عسكري بينهما، فهما بالنسبة للولايات المتحدة ليسا خصمين بل شريكين تجاريين منافسين، وما يجمعهما بالولايات المتحدة أكثر مما يبعدهما عنها. لقد انتهت مرحلة الصراع بين ما كان يعرف بالمعسكر الإشتراكي والمعسكر الرأسمالي، ولذا فإن ما ترمي إليه الولايات المتحدة من أهداف استراتيجية أو تكتيكية في أي منطقة من العالم تستطيع الوصول إليه بالوسيلة التي تقررها هي وحليفاتها في الحلف الأطلسي. فقد تدخلت لتغيير القيادات الحكومية في ليبيا وتونس ومصر واليمن وفي طريقها إلى سوريا بينما لبنان ينتظر.