في زحمة البحث عن حلول مستعجلة لحرب اليمن ومعارك السلطة في ليبيا، وضِعَت أزمة رئاسة الجمهورية اللبنانية في مخزن التجميد في انتظار فرصة مناسبة لاعادة إحيائها.
رغم المحاولات المكررة التي طرحها رئيس المجلس نبيه بري، في جلسات بلغت 33 جلسة يوم الأربعاء الماضي، فإن التحرك السياسي الجدّي لن يبدأ قبل الشهر الثاني أو الثالث من سنة 2016. وهو تحرك يقتضي نضوج عملية الانتخاب على نارَيْن، إقليمية ودولية، بحيث تصبح الكتل النيابية جاهزة لحلحلة العقد.
وترى مصادر الأمم المتحدة أن هذا الوضع لن يصل الى مرحلة النضوج قبل مطلع شهر آذار، أي عندما تجف مصادر تمويل تنظيم “داعش”، ويضطر أبو بكر البغدادي الى مضاعفة “الجزية” كتعويض عن حرمانه من ايرادات النفط.
وبما أن الحصيلة اليومية التي كان يجمعها “داعش” من النفط والضرائب تتعدى سبعة مليارات دولار، فان تجفيف هذه المصادر أصبح مطلباً استراتيجياً ملحاً لدى الدول المهتمة بتفكيك دعائم الدولة المصطَنَعة.
أما على الصعيد السياسي، فقد أجمع زعماء العالم الصناعي خلال اجتماعهم في باريس على القول إن استقرار الشرق الأوسط وحده يمثل العامل المؤثر لتجميد الهجرات الجماعية لألوف اللاجئين الى اوروبا. وعليه قرروا مساندة كل إجراء يوقف النزف الذي أرهق المنطقة بحروب أهلية مدة خمس سنوات. وهذا ما دفع بالسعودية الى المساهمة في هذا المجال، من طريق تشكيل تحالف عسكري إسلامي يضم 34 دولة. علماً أن “منظمة التعاون الاسلامي” تضم 57 دولة، وإنّ بينها مَنْ يغذي النعرات المذهبية ويؤجج الخلافات العقائدية.
الأسبوع الماضي سجل مرور خمس سنوات على ظهور “الربيع العربي” الذي بدَّل وجه الشرق الأوسط، وأعاد العالم العربي الى حقبة الفوضى والتطرف والحروب الأهلية. علماً أن هذه الموجة بدأت في تونس منتصف كانون الأول ونجحت في إسقاط الرئيس زين العابدين بن علي. ومن ثم وصلت تلك الموجة الجارفة الى مصر مقتلعة الرئيس حسني مبارك، من جذور عهد استمر ثلاثة عقود. وكان من السهل بعد ذلك وصول تلك الموجة الى ليبيا واليمن وسوريا.
المحللون خلال تلك المرحلة أرجعوا أسباب تلك الانتفاضة الى انعدام فرص العمل أمام الشبان، والى ولادة جيل أربكه الازدياد المتسارع في عدد السكان. ففي بداية الستينات بلغ عدد سكان العالم العربي مئة مليون نسمة. وبعد مرور نصف قرن تقريباً بلغ العدد 400 مليون، أي عشية إندلاع “الربيع العربي”.
وسرعان ما تبيَّن أن “الربيع العربي” انقلب الى “شتاء إسلامي” في غالبية دول المنطقة، بحيث غطى اللون الأخضر أعلام مصر وتونس. كذلك إنهارت مؤسسات دول عدة مثل ليبيا وسوريا واليمن والعراق ولبنان والصومال.
في صيف 2014 تغير “الربيع العربي” و”الشتاء الاسلامي” الى “صيف داعشي” عقب سيطرة محاربي هذا التنظيم على شمال العراق وشرق سوريا، رافعين الراية السوداء كشعار للحداد والموت.
لبنان، خلال السنتين الماضيتين، لم يتأثر بهذه المتغيرات الاقليمية، ما عدا الجانب الأمني الذي زعزعته حوادث العنف من عرسال الى الضاحية الجنوبية. كذلك طاول التهديد المؤسسة الدستورية التي عانت من الفراغ المستمر في منصب رئاسة الجمهورية. وهو فراغ تعددت الاستنتاجات التي رافقت إيقاعه المضطرب. بينهم مَنْ عزا هذا الفراغ الى إنحسار نفوذ الغرب في لبنان بحيث انتقلت قوة التدخل السياسي من الولايات المتحدة وفرنسا والفاتيكان… الى طهران التي يمثلها “حزب الله”.
إضافة الى هذا التحول، صدرت عن مرجعيات مسيحية أقاويل تغلـِّب فكرة وجود نيّة مبيتة لانتزاع منصب رئاسة الجمهورية من الموارنة، مثلما انتزعت صلاحيات الرئيس في اتفاق الطائف. وتدعم هذه المرجعيات موقفها السلبي بالاشارة الى المشروع الانتخابي الذي طرحه العماد ميشال عون – أي الانتخاب المباشر من الشعب – كوسيلة سريعة لاحداث هذا التغيير. خصوصاً أن بكركي ساهمت في عملية تعقيد هذا الموضوع عندما وافقت على حصر عدد المرشحين بأربعة فقط. وكان المعيار الذي استندت اليه يفترض إعطاء الأفضلية لمَنْ يحظى بأكثرية نيابية. لهذا توقع رئيس تيار “المَرَدَة” النائب سليمان فرنجيه من حليفه العماد ميشال عون المساندة والدعم، كونهما ينتميان الى خط سياسي واحد.
ولكن هذا الخط لا يصب في معين واحد، بدليل أن عون يستقوي بطهران في حين يستقوي فرنجيه بدمشق. ومن أجل استكشاف صلابة هاتين المرجعيتَيْن كتبت صحف لبنانية أن فرنجيه زار دمشق بغية التعرف الى موقف بشار الأسد تجاه الخطوة المشتركة التي اتخذها مع سعد الحريري.
وتوقعت هذه الصحف أن يكون فرنجيه قد سمع جواباً منسجماً مع الكلام الذي نقله الأمير طلال أرسلان على لسان الأسد قبل فترة قصيرة. وخلاصته أن سوريا الأسد جيَّرت كل المسؤوليات السياسية في لبنان الى “حزب الله” عقب انسحابها العسكري. وبقي هذا القرار ساري المفعول على مختلف الصعد، بما فيها صعيد الرئاسة.
وقد يكون هذا الموقف المتحفظ الذي أعلنه الأسد أمام أرسلان صحيحاً من الناحية المبدئية. ولكن الحقيقة، التي أخفاها، هي أن قراراته السياسية انتزعتها منه القوى المسؤولة عن حمايته، وحماية نظامه. أي القوى الروسية التي غرقت في مستنقع الحرب… والقوى الايرانية التي تجمع حالياً أسلحتها إستعداداً للانكفاء عن الجبهة… ومقاتلي “حزب الله” الذين فقدوا عدداً كبيراً من المحازبين في المنطقة الحدودية مع لبنان.
ومن المؤكد أن “حزب الله” لا يمانع إطلاقاً في تأييد سليمان فرنجيه الذي يختلف عن مرشحه ميشال عون في موقفه المعادي لاسرائيل. كما يختلف أيضاً عن موقف الدكتور سمير جعجع و”الكتائب” اللبنانية في هذه النقطة بالذات. والمعروف أن مجاهرة جدّه بهذا العداء أمام وزير خارجية اميركا هنري كيسينجر في محادثات “رياق” قد سببت له الكثير من المتاعب الأمنية، داخلياً وخارجياً.
إنطلاقاً من هذه الفرضية، يكون فرنجيه أقرب الى “حزب الله” في خطه السياسي، من المرشحين الثلاثة. ولو أن نواب الحزب يفضلون عون على أي مرشح آخر لسبب وجيه خلاصته أن رئيس “تكتل التغيير والاصلاح” يستقطب أكبر كمية من النواب المنتشرين في كل المناطق اللبنانية. في حين أن نفوذ فرنجيه لا يتعدى قضاء زغرتا وقضاء الكورة وجزءاً من قضاء عكار.
المتتبعون لمعارك الرئاسة في لبنان لا يقيسون أحجام الرجال بهذه المسطرة، وإلا لكان الرئيس شارل حلو والرئيس الياس سركيس سقطا في امتحان الشعبية. ومع هذا كله، فان مواصفات الرئاسة تختلف عن مواصفات رئيس المجلس أو رئيس الحكومة، كونها تتعلق بشؤون التنظيم ووحدة البلاد، وأهمية امتلاك شخصية قيادية رائدة.
المهم أن فرنجيه سقط في الامتحان الأول لأنه استعجل عملية حرق المراحل، وقفز الى آخر مرحلة برفقة رئيس حكومة ينتمي الى تيار 14 آذار. وكان من المنطقي أن يتعرض لانتقاد حلفائه لأنه لم يبلغهم بطبيعة هذا التحول… أو أنه افترض تنحي ميشال عون بعد سلسلة جلسات فاشلة. ويبدو أن كل هذه الأخطاء الشكلية زادت من مخاوف المشككين بسلامة العملية الانتخابية التي راوحت مكانها مدة سنة ونصف السنة. وهذا ما دفع فريق من المسيحيين الى اتهام “حزب الله” بتأخير تنفيذ انتخابات الرئاسة على أمل أن تتغير الظروف الداخلية والخارجية، لمصلحة رئيس غير ماروني.
أما السيناريو الذي ابتُكِر لهذه المرحلة، فيُصار الى تطبيقه خلال الربيع المقبل، أي عندما تشعر قيادة “داعش” بأنها معرضة للسقوط والهزيمة أمام هجمات خصومها الكثر. وفي هذه الحال، تضطر الى فتح ثغرة في لبنان تعوض بها عن الخسارة المتوقعة.
شعبة المعلومات في الجيش اللبناني لا تتوقع حدوث هذا السيناريو، لأن جميع المنتمين الى “داعش”، والمنظمات الراديكالية الأخرى، يخضعون لمراقبة صارمة في مختلف المناطق اللبنانية. ومع أن مثل هذه التطمينات ذُكِرَت قبل أحداث عرسال، ثم جاءت الوقائع لتنقضها. والكلام ذاته ينسحب على الأحداث الدامية التي وقعت في جرود “سير الضنيّة” مطلع العقد الماضي. ومثل هذا التذكير يُقال من باب الحيطة، لأن لبنان الهادىء والمستقر نسبياً قد يتعرض لهزة أمنية من خلايا نائمة تنتظر كلمة السر من البغدادي أو من سواه ممن أتقنوا ألعاب الفتن.
ومثل هذا التطور الذي نتمنى ألا يحصل، قد يضع “حزب الله” أمام امتحان وطني آخر ضد جماعات أصولية داخلية مسلحة. أما في حال فشل تنظيم “داعش” في ارتكاب أعمال مخلة بالأمن اللبناني، فان عملية انتخاب الرئيس الجديد تكون رهينة المتغيرات في الشرق الأوسط. كما هي رهينة الوضع الايراني في العراق وسوريا واليمن. ومعنى هذا أن تذليل العقبات الخارجية هو المدخل لتسهيل انتخاب رئيس لبناني قد لا يكون من الأربعة المعروفين!