تُصادف اليوم الذكرى التاسعة لرحيل النائب والصحافي الشهيد جبران تويني، حيث تجتمع العائلة والأحبّة لإحياء ذكراه، علماً أنّنا لم نتقدّم «قيد أنملة» في تحقيق حلمه وحلم الشباب اللبناني بوطن حرّ يحترم الإنسان ويُقدّس كرامته.
عندما ينكسر القلم، يُقصف ظهر المجتمع، في وطن تتكسَّر فيه الأقلام والأحلام مع إشراقة شمس كل صباح، ويغيب نور الإبداع مع وداع الكبار. جرأة جبران مطلوبة، لكنّ الكلام الكثير لا ينفع هذه الأيام، بل الأفعال، التي تُنقذ الشعب من ظلمته.
كانت كتابات جبران في زمن المحن، تعطي جرعات من الأمل، وتبشّر بالربيع المقبل. وفي زمن الخوف، كان صوت جبران يصدَح كاسراً كل الحواجز ومتطلعاً الى استقلال بلده وسيادته.
العلم نور، والنور كتابة ولوحات فنية ومخطوطات وإبداعات واختراعات. يُستعمل القلم كوسيلة لا يمكن الاستغناء عنها مهما بلغت التكنولوجيا تطوراً وعبرت القارات. لكن الأمور حالياً ليست كما يتمنّاها جبران، الشرق معذّب، ومهد الديانات السماوية الثلاث والحضارات الضاربة في عمق التاريخ، تعيش المآسي. نكتب، لكننا نسأل أنفسنا: هل من يقرأ وهل من يستمع الى لغة العقل؟
فالكتابة أصبحت بدعة في شرقنا، ويا للأسف. والمفاخرة بانتمائنا الى هذه المنطقة بات عاراً علينا، والقول إننا ننتمي الى أرض القداسة لم يعد يُصرف في مكان، ولماذا؟
رحلتَ عام ٢٠٠٥ ولم ترَ ماذا حلَّ بعدها، حيث تحوّل الدين وسيلة لقتالنا بدلاً من أن يكون رسالة محبة وسلام. الإنسان يُنحر باسم الدين كالخراف، وهذا ليس تشبيهاً مجازياً إنما واقع نعيشه.
عُدنا الى عصر الظلام والجهل، وبعض الناس تحوّل وحوشاً كاسرة لا دين ولا رحمة تردعانه، وأصبح الاعلام وسيلة لنقل أخبار المجازر في حمص وبغداد ودمشق ودرعا وغزّة والقاهرة وطرابلس الغرب، وإحصاء عدد الضحايا، والتبشير بالقتل وبثّ السموم المذهبية.
كل شيء تغيّر، سوريا التي كنتَ تعادي نظامها الديكتاتوري، إنتفض شعبها، لكن هناك من سرق هذه الانتفاضة التي واجهت باللحم الحيّ آلة القتل وإرهاب «البعث»، مثلما حلّ بانتفاضة «14 آذار» التي لم تحقّق أهدافها. العراق، بلاد الرافدين، في قبضة «داعش» وخصومه الذين لا يقلّون تعصّباً عنه.
امّا لبنان، فحدّث ولا حرج، قسمك الشهير وُضع في الأدراج، لكن اللبنانيّين سيعودون إليه يوماً، ونأمل ألّا تكون المدّة التي ستستغرقها هذه العودة كما أغنية «سنرجع يوماً الى حَيّنا». النزاع الشيعي- السنّي حكَم مرحلة ما بعد استشهادك، وهو أقبح نزاع مذهبي عرَفه تاريخ لبنان الحديث وتفوّق على مرحلة الحرب الأهلية.
حرب باردة لا ترحم، قتلت نفوس المسلمين وبلغ الكره الطائفي ذروته، في وقت يعجز المسيحيون عن لعب دورهم، وسط الأحقاد التي تخطّت التنافس السياسي وما زالت عالقة في أذهانهم.
لبنانك يا جبران، بلا رئيس جمهورية، ومشهد العلم اللبناني على كرسيك في مجلس النواب يوم تشييعك، عاد وتكرّر، إذ إنّ كرسي رئاسة الجمهورية فارغ، والخوف من أن تكون استشهدت بلا علم أحد. لم نستطع تأسيس الدولة التي حلمت بها وحلم بها كل لبناني نزل إلى ساحة الحرية في 14 آذار 2005. جنودنا يذبحون في جرود عرسال، وحزب ضرب عرض الحائط متخطّياً الدولة: يفتح جبهة مع إسرائيل ساعة يشاء، يقاتل في سوريا بلا استئذان، ينقل أسلحة إلى مخازنه من إيران وسوريا، يفاوض ويُحرّر أسراه فيما تعجز الدولة عن تحرير أسراها.
وماذا حلّ بقوى «14 آذار» التي ينبغي أن تحمل مشعل الثورة؟ هذه القوى دخلت منذ رحيلك مرحلة اللاقرار، وتحوّلت قوى دفاع بدلاً من الهجوم لتحقيق المكتسبات وتحصين ثورة الأرز، خسرت الكثير ومعها الوطن، تحكّمت بها الشهوة على السلطة ولم تنجح في تحقيق هدفها الاساس، وفقدت كوكبة من رجالاتها بعدك، لم يُعرف حتى الساعة مَن قتلهم.
ميشال تويني
قد تكون المآسي المحيطة بنا كبيرة، لكن مشعل الحرية يبقى مضيئاً في بلد الحريات، ومن هذا المنطلق تؤكد ابنة الشهيد جبران، ميشال تويني، لـ«الجمهورية» أنّ «شعلة جبران مستمرّة مع الشباب المناضل الحرّ الذي يؤمن بمبادئه وطريقة عمله وحيويته، وتصميمه على استكمال الدراسة والعمل في لبنان، لا الهجرة والهروب من مواجهة الواقع».
«الحالة صعبة»، وعلى رغم كل الاغتيالات والنكسات تصرّ تويني على أنّ «دمّ جبران لم يذهب هدراً، فهو دخل التاريخ من بابه العريض، ولو أنّ الناس هاجرت من المشكلة الأولى لَما كنّا قادرين على فعل ما نفعله اليوم».
لا تراهن تويني على الطبقة السياسيّة والإعلامية الحالية لإحداث التغيير المطلوب «على رغم بعض الناس الأكفّاء»، وتلفت النظر الى انّ «الإعلام يجب أن يقود الشعب لا أن ينحدر الى المستوى الذي يحاكي الغرائز، لكي يكسب مشاهدين وقرّاء، فهناك جيل قادر على إحداث التغيير المطلوب إضافة الى الأكثرية الصامتة من الشعب اللبناني التي نزلت الى ساحة الحرية في 14 آذار 2005، والتي كان جبران يتوجّه إليها بخطاباته وكتاباته».
وتشدّد على انّ «جبران لو كان بيننا لتخطى انقسامات «8 و14 آذار» وخلق حركة جديدة متجددة كما كان يفعل دائماً، لأننا وبعد 9 سنوات على استشهاده لا نزال مكاننا».
وتستذكر تويني مقالاً لوالدها عام 1993 تحت عنوان «إستفق وتكلّم»، وتوجّهه الى الشعب اللبناني سنة 2014 لينتفض ويُغيّر الواقع.
أمّا بالنسبة الى التحقيقات، فتقول: «أبلغونا أنّ التحقيق كان يركّز على اكتشاف رابط بين جريمة اغتيال جبران تويني والرئيس رفيق الحريري، لكنهم لم يجدوا أي رابط حتى الساعة، والأمور تراوح مكانها».
بصيص أمل
وسط كل هذه المآسي لا بدّ من نافذة أمل ننظر منها الى وطننا، حيث يبدو أنّ القرار واضح بتحييد لبنان عن صراعات المنطقة، لأنّ الحرب الأهلية ممنوعة، فيما تبقى قنوات الحوار مفتوحة بين اللبنانيين مهما اشتدّ النزاع. كذلك، فإنّ الغطاء السياسي أعطي للجيش اللبناني لمنع تمدّد الإرهاب وسحق رأس الفتنة، وكل مشاريع التقسيم بعيدة عنّا، على رغم شهوة البعض وحنينه الى دويلات من مخيّلة الرجعيّين.
تعبَ اللبنانيون من السير وراء النعوش، ومن التكاذب السياسي وانهيار المؤسسات، لكن لبنان يفتقد أمثال جبران اليوم، ليقولوا الحقيقة، وينادوا بأعلى صوتهم رافضين الواقع المفروض بترهيب السلاح غير الشرعي والأنظمة الديكتاتورية وقوى الظلام المذهبي.