بين المواجهات السنية ــــ الشيعية في المنطقة والحروب الطائفية، ومحاولات الحوار الجارية في الداخل، أين الموارنة والدروز من التحديات التي تواجه لبنان؟
يعيش لبنان على إيقاع سعي المحورين السعودي والإيراني إلى تثبيت مواقعهما في منطقة الشرق الأوسط، عشية الاتفاق الإيراني ــــ الأميركي المتوقع بعد أسبوعين. بين المملكة والإمبراطورية محاولات لتجميع الأوراق والساحات وعدة المواجهة، ويشكل الحوار السني ــــ الشيعي الدائر منذ كانون الأول الفائت في لبنان، أحد التجليات الأساسية لتوازن «الرعب أو السلم» الذي تطمح إليه طهران والرياض، وسط انفجار المواجهات في المنطقة.
هدف الحوار الأساسي إرساء قاعدة لتخفيف الاحتقان بين جمهوري الطرفين، وسحب فتيل التفجير بينهما. لكن المشكلة أن لبنان الذي يتمتع بخصوصية مختلفة عن باقي ساحات المواجهة في الشرق الأوسط، لا يمكن أن يكتفي بهذه الثنائية التي تعمل منذ أعوام على بلورة اتفاقات جانبية. فهذه الثنائية التي قرأت الطائف بدعم سوري قراءة مختلفة، وركّبت ترويكا رئاسية برعاية الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، عادت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري لتبتدع فكرة التحالف الرباعي، لتعمل بعد 7 أيار على استحداث قراءة مختلفة للطائف مع صياغة اتفاق الدوحة. لكن بدا بعد تجارب السنوات الأخيرة أن القراءات المجتزأة لا تعمّر طويلاً، وأن المواجهات التي تجنح إليها المنطقة، ستفتك بلبنان، ما لم تكن كل المجموعات فيه متشاركة في قاعدة حوارية جامعة.
اليوم ثمة سؤال تطرحه أوساط سياسية ترصد تأثر لبنان بتحولات المنطقة: أين الموارنة (والمسيحيون) والدروز مما يجري في لبنان وخارجه، رغم محاولات تحييده بسبب تركيبته الطائفية المتداخلة؟ والسؤال الذي يأتي خارج سياق الحوارات الدائرة حالياً في بيروت، لا يهدف إلى إعادة إحياء الثنائية التي أنشأت لبنان ما قبل الاستقلال، ولا إلى التعامل معهما كأقليات تبحث عن حماية ودور. بل هناك محاولة لتصويب مسار الحوارات في البلد، في شكل تعيد صياغة حوار شامل، لأن لبنان يتمتع بخصوصية لا تشبه أياً من الدول التي تجاوره، ولأن التحديات التي تواجهه لن تكون حكراً على الطرفين السني والشيعي.
لم يتمكن الموارنة والدروز من صياغة حوار حقيقي
يعبّر النائب وليد جنبلاط، بزعامته الدرزية، عن قلقه وخوفه على الأقلية الدرزية في سوريا، ويسعى إلى تجنيبها مخاطر التناحر الديني والعسكري. وهو سبق أن رمى بثقله بعد 7 أيار اللبناني لإبعاد الدروز عن خطر المواجهة الداخلية وتحييد «الجبل» بمعناه الطائفي، وليس فقط الجغرافي، عن حالة الانقسام بين 8 و14 آذار. وهو سعى عبثاً في الأشهر الأخيرة من العام الفائت، خلال جولة مكوكية بين القيادات الرئيسية إلى محاولة تخرج الأزمة الداخلية من عنق الزجاجة. في المقابل، ظلت الحركة المارونية خجولة، حتى وهي تتكثف تبقى محصورة في متاهات الرئاسيات أو المحاور السياسية الداخلية، كما يجري مثلا بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.
لكن الموارنة والدروز لم يتمكنوا، كل بمفرده أو حتى سوياً، من أن يردوا النقاش الداخلي إلى مكانه الحقيقي، رغم أن للطرفين المصلحة فيه، لأنهما المجموعتان الوحيدتان اللتان لا سند إقليمياً لهما. على عكس السنة الذين تقف مرجعيتهم الإقليمية على مقربة من لبنان، والشيعة الذين صارت مرجعيتهم الإقليمية في عقر الدار اللبناني والسوري. وللموارنة والدروز مصلحة في حوار حقيقي جدي حول مشاكلهما ومشاكل البلد، لأن لا مكان آخر لهم يلجأون إليه، وهم يتطلعون إلى مسيحيي سوريا والعراق يهربون إلى لبنان من الاضطهاد والقتل والتشريد، وإلى ما يجري في القرى الدرزية السورية، حيث الفظائع تطيح كل الأعراف والتقاليد والحرمات.
لم يتمكن الموارنة والدروز من صياغة حوار حقيقي، فلا صعود البطريرك الماروني الكاردينال مارنصرالله بطرس صفير إلى الجبل، أعطى للمصالحة المنشودة مداها البعيد، ولا حققت زيارتا البطريرك الماروني الحالي مار بشارة بطرس الراعي أو رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون للجبل ما كان يجب أن تحققاه من إعادة وصل ما انقطع.
ثمة حقيقة قاسية تعيشها المجموعتان، وبدأت تظهر أكثر فأكثر مع اقتراب التحديات الإقليمية من الداخل اللبناني، بما يظهرهما وكأنهما مهمشتان، وهي أن الموارنة لم يخرجوا من حرب الإلغاء بعد، والدروز (والموارنة) لم يخرجوا من حرب الجبل. الحرب الأولى يحاول المسيحيون عبثاً طيّ خلافاتها وطيّ صفحة الأحقاد عبر حوار يتأرجح بين مد وجزر. والحرب الثانية دفع الموارنة ثمنها، لكن الدروز يدفعون أيضاً كل يوم ضريبتها الحياتية في الجغرافيا وبيع الأراضي والديموغرافيا والإنماء، حيث صار الجبل مطوقاً بين مجموعة من التحديات من الشمال والجنوب والغرب والشرق.
رغم كل المحاولات الجادة، من الطرفين، بقيت حرب الإلغاء والجبل كامنة في نفوس الموارنة والدروز. وهم أكثر من يمكن اليوم أن يفهم ما يجري حيث تكبر المواجهات الطائفية وتتوسع حلقات الصراع السني ــــ الشيعي. لكن الخطر الإقليمي الذي يحيط بلبنان، والذي بدأت جميع الطوائف تتلمسه، لا ينفع معه البقاء في أزمات الماضي وسلبياته وتبادل الاتهامات وتحميل المسؤولية للآخر، بل يفترض الذهاب إلى مكاشفة صريحة وواضحة وحوار مع جميع الطوائف والمكونات. لأن بقاء الموارنة والدروز خارج ما يجري من حوارات ومن سعي إلى التفتيش عن حلول للمشكلة اللبنانية على إيقاع التوازن السعودي ــــ الإيراني، سيضاعف من حدة الأزمة الداخلية، ويترك أثره السلبي على وضع الطائفتين ومستقبلهما. والأهم أنه قد يرسم مقترحات حلول مستقبلية قد لا تكون متلائمة مع تطلعاتهما، بما في ذلك قراءة مختلفة أو مجتزأة مرة أخرى لاتفاق الطائف.