كان جدودنا من الفلاحين يضعون على جانبي عيني البغل رقعتين من الجلد بقصد حصر نظره على الطريق الوعر، فلا يتشتت انتباهه ويسقط في الهاوية حاملا أغلال الحقل. بعض القادة في المنطقة والعالم يولدون وعلى جانبي العينين حاجز افتراضي تضعه عقولهم غير السوية، وتحصر انتباههم واهتمامهم في نقطة واحدة تتعلق فقط بمصالحهم الشخصية والخاصة، ولا تتجاوزها الى ما هو أعمق وأبعد، عموديا وأفقيا. والرئيس الأميركي دونالد ترامب هو من هذا النوع من القادة. ولا ينكر أحد، لا في الداخل الأميركي ولا في الخارج على امتداد العالم، بأنه يتمتع بموهبة وحيدة تتعلق بالمال، وبحسّه المرهف باستثماره، ومضاعفة تراكمات ثروته الخاصة، بالاضافة الى كل ما تحتاجه هذه الموهبة الرئيسية من مواهب فرعية مثل التفاوض والبراعة في العلاقات العامة، والقدرة على الاقناع، والغش والخداع الى درجة اقناع الطرف الآخر بمحاسن الانتحار أو السقوط في الهاوية!…
***
غير ان ترامب وصل الى البيت الأبيض وهو لا يتمتع بمواهب أخرى يلزم توافرها في قيادة دولة هي الأعظم في العالم. وهو نجح في الداخل الأميركي برفع مؤشرات الاقتصاد الأميركي، وهو أمر يقع في صلب اختصاصه وموهبته! ولكنه في الوقت نفسه، فشل فشلا ذريعا في ادارة سياسات أميركا في العالم، بحد أدنى من الضوابط التي اتبعها الرؤساء الذين سبقوه في البيت الأبيض. بل انه حتى اليوم لم يتمكن من اكمال التعيينات في ادارته، وقد أجراها بالأسلوب المعروف عنه في الارتجال، وفي النظر الى نقطة واحدة محددة في شخصية كل من معاونيه، من حيث الولاء له وتمجيد شخصية الرئيس ظالما أو مظلوما. وهكذا عرفت الادارة الأميركية في عهده قدرا من الوافدين الى الادارة الجديدة والخارجين منها بوتيرة متسارعة، لم تعهده أية ادارة أميركية في السابق!
***
بلغ ترامب ذروة الغطرسة والنزق في قراره الاعتراف بالقدس عاصمة حصرية لاسرائيل، ونقل السفارة الأميركية اليها، وهو الأمر الذي لم يقدم عليه أي من الرؤساء الأميركيين السابقين، ليس لنقص في شجاعتهم – كما يتوهّم ترامب – وانما لرجحان في فكرهم وتبصّر بالعواقب الناتجة عن مثل هذا القرار المجنون. ومع ذلك، فالولايات المتحدة الأميركية لا تزال هي الدولة التي تصنع القرار بمؤسساتها وليس بتفرّد الرئيس بالرأي والقرار. ويبدو ان أهل الرأي في تلك المؤسسات آثروا أن يمدّوا الحبل للرئيس ترامب الى ان يشنق نفسه به، ولا يضطرهم الى افتعال أزمة داخلية تعصف بأميركا عن طريق اتباع اجراءات تنحيته عن السلطة! والانجاز الأعظم الذي حققه ترامب في نحو سنة من ولايته، هو انه منح العزلة الدولية لأميركا في العالم، ومنح القدس وفلسطين الى اسرائيل، ولو موقتا!