Site icon IMLebanon

متى تبدأ مسؤوليات «العهد الجديد»

لنتساعد في ذاكرتنا ومعلوماتنا علّنا في العودة المشتركة إلى الماضي القريب – البعيد، نتمكن من فهم انقلاب أوضاع البلاد إلى هذا الحدّ من السوء والتدهور. الأحداث الخطيرة التي مررنا بها ووصلت إلى نهاياتها في أواخر التسعينات، لم تنته وفقا لمصالحةٍ وطنية تمت ما بين اللبنانيين آنذاك، بقدر ما انتهت وفقا لانقلاب أفرز سلطة جديدة بالكامل وزعت مواقع البلاد وسلطاتها وسطوتها ما بين جملة الميليشيات التي خاضت فيما بينها حروبا ضروسة، فأزالت من الوجود طبقات سياسية حاكمة بمقوماتها شبه الديمقراطية، وحولتها إلى طبقة جديدة من الحكام سبق لمعظمها أن استحكم بالبلاد بقوة السلاح ونهج الإقتتال، وبقرار ومساندة من قبل النظام السوري الذي رغم خروجه المسلح من الساحة اللبنانية، فقد تابع تواجدة على الأرض اللبنانية من خلال تسليمه لمفاتيح السلطة الحقيقية إلى ميلشيات خلقها ومكّنها من الإمساك بالخيوط السياسية والأمنية والإدارية.

صحيح أن الأوضاع العامة قبل اندلاع أحداث العام 1975 لم تكن متناهية السلامة والخلوّ من العلل، وصحيح أن التوازنات الوطنية كان يداخلها الخلل في نقاط عديدة بينها ما هو مرتبط بالأثر الذي تركه الإنتداب الفرنسي في حكمه وتحكّمه بالأوضاع اللبنانية التي وصلت إلى تخريب وتشويه التقدم الذي وصل إليه لبنان واللبنانيون في بدايات تاريخهم الإستقلالي حتى أنهم انتخبوا لرئاسة الجمهورية شيخا معمما وزعيما لبنانيا من طرابلس هو المفتي الشيخ محمد الجسر، وكان منتخبوه نوابامن مختلف الطوائف والمذاهب، قد أوصلوه إلى السلطة الأولى بإرادة ديمقراطية ذاتية لم تدفعها إلى التعثر إلاّ رغبة المندوب السامي الفرنسي وبعض من كان خلفه محليا، في إعادة العجلة إلى الوراء، ومنذ ذلك الحين، تضاعف الحديث الطائفي حتى لأصبح جزءا لا يتجزأ من هذا الكيان اللبناني الذي كمنت بين حناياه إرادات غاية في الإنغلاق، نشأ عليها وأنشأ البلاد والعباد في ظلالها، وها نحن اليوم ندفع الثمن الباهظ من قدرة الوطن على تجاوز محنه ومطباته، وإذا بنا قد وصلنا إلى بلاد لم يعد في صفوفها الحاكمة إلاّ دعاة التفرقة وتقسيم هذا الوطن الصغير، إلى ثمانية عشر شريحة ولم نعد نسمع إلاّ قليلا عن توجهات وطنية صافية، حتى لباتت الأحزاب والجمعيات والتجمعات اللبنانية تنضحُ بالحس الطائفي والتوجيه المجابة والمصادم.

من هذا المنطلق: لقد فوّت لبنان على نفسه، فرصةً تاريخية انطلقت في الرابع عشر من آذار بُعَيد جريمة اغتيال شهيد لبنان الرئيس رفيق الحريري التي تحولت تحت رايات استشهاده ومغازيها بعيدة العمق والمدى، من حال الإستنهاض التي بدأها الرئيس الشهيد إنمائيا وإعماريا، وبدأ بتحويلها إلى استنهاض وطني وسياسي شامل سعى إلى إخراج البلاد من قبضة الخارج، وأدت إلى اغتياله بما سمي بجريمة العصر، فكانت منطلقا للشرارة الوطنية الكبرى التي التفّ اللبنانيون حولها، فاجتمعوا موحدين متشابكي الأيدي والمواقف والتوجهات، وأصبحت 14 آذار، التجمع الوطني والتلقائي الأول بشموليته وبعده الوطني، وكان هذا العنوان هو الذي تصدّر الحياة الوطنية، وكاد لبنان من خلالها أن ينتقل من مرحلة الفئويات المتغلغلة في أعماق التخلف الوطني، والمتشحة بسواد الطائفية والمذهبية، إلى وطن أمسك قولا وفعلا بمقاليده وتطلعاته إلى حياة حرّة كريمة، وكادت كلمة اللبنانيين بغالبيتهم الكبرى أن تصبح واحدة، ففرضت حركة 14 آذار نفسها بفعالية تامة، وبتوحدّ شامل ما لبث مع الأسف أن طاوله التمزق والتشرذم. ولئن كان الخصم الإقليمي وتوابعه قد استسلموا لإرادة الشعب اللبناني، فتحقق خروج الوضع السوري السابق بكليته من هذه الساحة المنكوبة، فإن الوضع القائم، لبث مستعصيا على إستعادة الدولة الواحدة بأرضها وشعبها ومؤسساتها جميعا، بما فيه المؤسسات العسكرية والأمنية المختلفة، حيث شاركتها في السلطة والسيادة، سلطات أخرى فرضت نفسها بحكم الأمر الواقع، وتساقطت الآمال التي خلقتها 14 آذار في نفوس وعقول اللبنانيين وما حققوه على صعيد الوحدة الوطنية والتقدم باتجاه دولة عصرية، بعيدة عن التخلف والتقوقع.

ها نحن اليوم نقف أمام تقاطعات طائفية ومذهبية حادة وحافلة بالتحديات والتناقضات والمخاطر، كل فريق يغني على ليلاه، ويسعى إلى تحقيق مطالبه وطموحاته، دونما أية مراعاة لوجوب تأمين وجود الدولة وسيادتها، وبالحؤول دون تقسيمها واقعيا وفعليا إلى دولتين تتنازعان شرعية معتدى عليها، منهوبة السلطة والثروة، ومؤجرة ومجيّرة إلى الغير دولا ومصالح ومطامع. من هذا المنطلق، نرى في الأوضاع العامة ما يزداد حدة وظلمة، ونرى في تصرفات الزعامات اللبنانية ما يوحي بالتراجع عن نهج اقتحام ما لسدود الأوضاع المعقدة والخطيرة التي كان الجميع يشكون منها ويهددون بالويل والثبور اذا لم يتم تصحيح نواحي الخلل الشديد فيها، وفي طليعتها قضايا الهدر والفساد، وها نحن نشهد وضعية غريبة عجيبة، نرى فيها عهدا جديدا يكاد أن يتبرأ من حكومته الأولى، ذاكرا أن عهده لم يبدأ بعد، وإذا بنا نجد الرئيس سعد الحريري وقد بات في موقع السلطة من خلال رئاسته للحكومة يجابه الأوضاع بمسؤولية شاملة وربما يحق له أن يتساءل: أأنا المسؤول الوحيد لتلقي تبعات الحكم على كتفيا؟ وها نحن أمام حكومة بمعظم انتماءاتها، تنأى بنفسها عما هو حاصل، وتتخفى على مسؤولياتها متجاهلة الأثمان الغالية التي تدفعها البلاد، من خلال المواقف المنعدمة أحيانا والخجولة والشاذة أحيانا أخرى.

إن نزول الرئيس الحريري قبل أيام إلى الساحة العامة لملاقاة المتظاهرين بأسلوب التفهم والتفاهم وروح المشاركة الحقيقية في إيجاد الحلول الممكنة والمنطقية، يمثل خطوة حكيمة وجريئة تأخذ على جميع المسؤولين، تقصيرهم في معالجة المعضلات، بالقول والفعل، منددين في مطلق الأحوال بأعمال الشغب الوقحة والمغرضة التي قام بها بعض المندسين والمستغلين لهذا الوضع اللبناني الصعب والمؤلم، ولكن ذلك لم يعد كافيا، ولا بد من تضامن إيجابي بين المسؤولين في وقفة مماثلة تعطي ما لقيصر لقيصر وما للوطن للوطن وما للشعب للشعب، ونتساءل منذ الآن: بعد كل التطورات الحاصلة على هذا النحو المتفاقم: متى تبدأ مسؤولية العهد الجديد ومتى سيعتبر أن الشعب بدأ يعدُّ الأيام والأخطاء، ويشير إلى عناصر التأخر في وضع حد للقروح المميتة التي بدأت تنخر في صلب هذا الوطن.