ما المقصود من استفزازات السلطة؟
عندما يتحوّل النظام إلى «رجل مريض»
غريب أمر هذه السلطة. تثبت يوماً بعد آخر أنها أعجز من أن تحكم البلد، كما تثبت كم كان الشعب اللبناني مقهوراً حتى وافق طيلة هذه السنين على حكمه من قبل قلة أثبتت أنها لا تجيد سوى عقد الصفقات. حتى هذه الصفة بدت عقيمة أمس، بعدما اختلف أركان السلطة على القسمة.. فطارت الصفقة.
مع ذلك، فإن الحرص يبقى واجباً. لا يعقل أن تتصرف السلطة المشهورة بدهائها بهذا الغباء. تاريخها لا يتناسب مع مقدار التخبط الذي تعيشه. من يراقب تصرفاتها في الأيام الأخيرة يكاد يجزم أنها إما تحولت إلى «رجل مريض» وسلّمت بمصيرها أو أنها تنفذ مخططاً مجهولاً لم تتضح معالمه بعد.
من أطلق النار على المتظاهرين كان يعرف أن ذلك سينعكس عليه سلباً.. لكنه تعمد الإيذاء، وهو لم يكف طيلة الأيام السابقة عن التعبير عن همجية السلطة من خلال تكرار الاعتداء على المتظاهرين السلميين، لمجرد أنهم رموا قوارير المياه على القوى الأمنية.
ومن رفع جداراً في وجه المعتصمين كان يعرف أن خطوة كهذه من شأنها أن تنكأ كل الجراح وتربط اسم الحكومة الحالية باسم كل الديكتاتوريات التي رفعت جدران الفصل العنصري في العالم، ولا سيما منها الجدار الذي رفعته إسرائيل في وجه الفلسطينيين. فعلت ذلك، قبل أن تسقط في شر أعمالها فيتحول الجدار إلى خلاصة حكم مبرم سطره المتظاهرون بحق كل من حجب نفسه عن الناس. لم يحتمل الرئيس تمام سلام أن يكون أحد المتهمين وهو الذي قال للمتظاهرين «صبري من صبركم»، فأمر بإزالة الجدار أو نصفه، بعد أن يفترض أن يكون قد وافق سابقاً على رفعه. والأسوأ من هذا وذاك أن من لُزّم رفع الجدار وإزالته ليس سوى «السوبر وزير» جهاد العرب.
والسلطة نفسها هي التي عبرت عن ارتباك استثنائي في التعامل مع فضيحة النفايات. فبعد إعلان عجزها عن رفع النفايات من الطرق، واعدة بأن تتدافع الحلول بعد إقرار المناقصة، أوقفت كل شيء فجأة. كل الوعود سقطت، وسقطت معها المحاصصة الفظة، بعدما تبين أن القسمة ليست عادلة وأن التفاوت في الأسعار المقدمة كبير. قبل ذلك، كان فض العروض قد تأجل بحجة ضرورة تدقيق «الخبير الأجنبي»، ثم أعيد تقديم موعده ليوم واحد تحت ضغط الشارع.. قبل أن تطير من جذورها.. تمهيداً ربما للتمديد للأمر الواقع.
خفة السلطة لم تقف عن هذا الحد، فعندما حاولت أن تحل المسألة لم تجد أسهل من رشوة أبناء عكار مع ربط الرشوة بموافقتهم على استقبال نفايات العاصمة وجبل لبنان، فكان الرد سريعاً بالإعلان عن حملة «عكار ليست مزبلة».
كل ذلك يسمح ربما بطرح عدد من الأسئلة: هل تشارك السلطة المتظاهرين في تحركهم؟ وهل تحفزهم على النزول في وجهها من جراء تكثيف ارتكاباتها في الأيام الأخيرة؟ أم أن فقدانها للسيطرة أفقدها صوابها، فكثرت أخطاؤها؟
الاحتمالات عديدة لكن المتظاهرين مستمرون.. و «الحكومة الفاشلة مشكورة تعطينا كل يوم مزيداً من الدوافع لنستمر في تحركاتنا». فهي تساهم بغبائها وغباء من يقف خلفها في تحفيز من لم ينزل بعد إلى الساحة ليشارك أهله ثورتهم. أما الحديث عن المندسين، فآن له أن يتوقف. التظاهرات هي كر وفر، والمتظاهرون في العالم كله يسعون دائماً لخرق الحدود المرسومة لتحركاتهم.. أو حتى استفزاز القوى الأمنية. لكن ذلك لا يعني أن يكون الطرف الأقوى سهل الاستفزاز.. فيسهل عليه، بالمقابل، استعمال العنف المفرط.