ليس قليلاً أن يتدرّج موقف فلاديمير بوتين من تركيا بعد إسقاط طائرة «السوخوي» الروسية، من توعّدها بتبعات خطيرة نتيجة «الطعنة في الظهر» التي وجهتها إليه، الى مجرد طلب «اعتذارها» عما حصل.
وذلك يعني بداية، ان بوتين يخلع ثوبه القتالي الشرس الذي لبسه في القرم وأوكرانيا وقبلهما في الشيشان وجورجيا، وراح خطوة في اتجاه تعديل أمزجة جماعة الأسد في سوريا وخارجها الذين افترضوا فيه ما ليس فيه، وراكموا تخيّلات في شأنه وصلت الى حدّ جعله البيضة التي ستعدّل القبّان، وستركّع الغرب والأتراك والعرب وعموم المسلمين وتدفع بهم الى طلب الرأفة وقبول التوبة!
وواقع الحال الذي أنكره روّاد التشبيح الأسدي، يفيد أن بوتين قدّم قبل تلقيه «الطعنة في الظهر» من تركيا، ما يكفي من إشارات الى انه واقعي وليس مغامراً، ورجل دولة وليس انتحارياً.. خصوصاً بعد أن تبيّن له ولكل من واكب نزوله الصاخب في النكبة السورية، ان قدراته لا تتلاءم مع ادعاءاته، وان المسرح الذي يلعب عليه ليس ملكاً حصرياً له وان طموحاته الذاتية ليست قدَراً.. وان العالم الخارجي ليس روسيا! وإن محاولة انقاذ سلطة الأسد بالقوة دونها خرط القتاد!
منذ اللحظات الأولى لبدء ما سمي «عاصفة السوخوي» بدت حسابات الأرض تقدم ما يناقض حسابات الفضاء الافتراضي.. وسرعان ما تبيّن ان لا المعارضة السورية الفعلية والحقيقية، ولا داعميها العرب والإقليميين والدوليين، أخذوا بالصخب التعبوي الترويعي الذي رافق تلك «العاصفة»، وان العكس هو الذي حصل تماماً، بحيث ان قرار المواجهة دُعّم عملياً وتسليحياً، والموقف من مصير الأسد أو من «دوره» المستقبلي لم يتغير قيد أنملة، برغم تغيّر بعض التفاصيل لاعتبارات تتعلق بالمعطى الأول الذي يقول بـ«حل سياسي» وليس عسكرياً.
وذلك يُعيد الأمور برمّتها الى المربع الأول. بمعنى، ان نزول بوتين في سوريا ما كان ممكناً أو وارداً من أساسه لولا الانكفاء الأميركي الغربي.. وهذا ما لم يستوعبه المحور الأسدي تماماً وراح بالتالي الى بناء سيناريوات كبيرة سرعان ما تحطمت تحت وطأة بضعة صواريخ من طراز «تاو».. بضعة صواريخ، لا أكثر ولا أقل، كانت كافية للجم كل ذلك الضجيج وإعادة الواهمين الى أرض الواقع.
من تلك الصورة العامة يتفرع المشهد الأخير الخاص بإسقاط «السوخوي» من قبل الطيران التركي. بحيث ان معادلة «أكل الرؤوس» والبلطجة والنفخ التعبوي تلقت بدورها معادلة مضادة، واقعية بالتمام والكمال: الطيران الحربي الروسي ليس وحده المخوّل بالعمل في السماء السورية! وادعاءات مكافحة الارهاب الداعشي لا تغطي العمل بأجندة أسدية تطاول كل المعارضة السورية! والرهان على أن البلطجة تسري مع جيران النكبة السورية مثلما سرت مع جيران روسيا، سقط وسيسقط عند كل اختبار!
والواقع هو ان بوتين يحكي مثل مراهق مقاتل طائش وعصبي و«نرفوز» لكنه يتصرف في سوريا بشيء من الواقعية ويظهر حساسية رجل الدولة الذي يضع حدًّا لرهاناته ومناوراته، ويتحمل المسؤولية في اللحظة الحرجة: ناور طويلاً مع الأتراك، خصوصاً في شأن الأهداف التي يقصفها طيرانه الحربي، وافترض ان أنقرة لن تفتح مشكلة مع موسكو لألف اعتبار واعتبار، لكنه سرعان ما لجم كل حركته عندما تيقّن أن الأتراك وغيرهم، غير مستعدين للتراخي، لا ميدانياً ولا سياسياً. وانهم جاهزون لفتح ألف مشكلة وليس مشكلة واحدة، من أجل الوصول الى انهاء النكبة السورية بطريقة صحيحة، أي البدء في «معالجة» رأسها أولاً ثم الولوج الى أطرافها… أي الانتهاء من بقايا السلطة الأسدية كشرط لا بدّ منه، للانتهاء من مواجهة فعلية وحاسمة مع الإرهاب الداعشي.
الطبيعة «الأولى» للبلطجي انه لا يفهم إلا لغة القوة، ولا يحترم إلا ما يوازيه كفاءة.. وعند هاتين الحالتين، (وعندهما فقط) ينتبه الى مكرمة التواضع ويتذكر فضائل الأخلاق الحميدة.. ويذهب الى مطالبة خصمه أو عدوه بـ«الاعتذار»! علماً، انه حتى هذا «الاعتذار» ليس وارداً لأن تركيا بكل وضوح تعتبر انها لم ترتكب أي خطأ، بل ستكرر ما فعلته كلما حاولت «السوخوي» تخطي حدودها!