Site icon IMLebanon

متى سيتوقّف العالم عن الكَيل بمكيالين

التظاهرة المليونية التي شهدَتها العاصمة الفرنسية باريس رفضاً للإرهاب وتضامُناً مع الجمهورية الخامسة، تؤكّد أنّ عالمنا لم يفقد كلّ مزاياه الإنسانية بعد، وأنّ هناك فرصةً لتدارك العنف الذي يعصف بأنحاء المعمورة كافةً.

مشهد خروج العالم بغالبية مكوّناته السياسية والعرقية والدينية والاجتماعية صفّاً واحداً في مسيرة «الجمهورية»، عقبَ جريمة «تشارلي ايبدو» الإرهابية لا بدّ ان يترك أثراً في نفوس الملايين من الذين تابعوا تلك الصوَر على شاشات التلفزة، ولكَم يتمنّى المرء ان يؤدّي ذلك ولو بنِسَب محدودة بتقريب وجهات النظر بين قادة العالم حول ضرورة التعاون في إيجاد حلول لمعضلة العصر المتمثلة بالإرهاب.

أو يدفع ذلك زعماء العالم الى التوصّل في نهاية المطاف الى مفهوم موحّد حول الارهاب. فالتجربة أثبتَت أن ليس للإرهاب وطنٌ أو دينٌ أو قوميّة أو طائفة، فكلّ أنواع القتل إرهابٌ بصَرف النظر عن الذرائع، والقتل بذريعة محاربة الارهاب هو الارهاب بعينه، لأنّ محاربة المتطرفين لا تكون بالصواريخ والمدافع، حيث دلّت الوقائع انّه كلّما ارتفعت أصوات الرصاص والمدافع ازدادَت ردود الفعل الانتقامية.

إذاً محاربة الارهاب ليست بالقتل بل بتجفيف منابعه ومعالجة أسباب انتشاره، والخطوة الأولى يجب أن تبدأ بمعالجة الأسباب التي تدفع الشباب إلى اللجوء لهذا النوع من الأعمال الإجرامية.

ولعلّ الفقرَ أو عدمَ توافر فرص العمَل يشكّل أحد الأسباب الرئيسية، إلى جانب القمع الفكري الذي تتعرّض له الكثير من المجتمعات التي تعيش في ظلّ الأنظمة العسكرية والاستخباراتية.

ولا شكّ في أنّ عدم الاعتراف بأدنى حقوق الآخر يشكّل حافزاً لانغلاق تلك المجموعات على نفسها ويدفعها للانتقام. فكما للفرنسيين ولكلّ شعوب العالم حقّ العيش بأمان وسلام، هناك على سبيل المثال حقّ للشعب العراقي والسوري وغيرهما من الشعوب في العيش بأمان.

فالعاقل يدرك انّ شنّ الحروب العالمية في الشرق الأوسط بذريعة محاربة الارهاب ما هو إلّا لتبرير مخططات غير معلَنة، فما كان أهل الشام أو أهل العراق يوماً منبعاً للإرهاب، بل إنّ الفكر المتطرف هو دخيل على مجتمعاتهم، وتمويله وحمايته ورعايته ومَدُّه بالسلاح والعتاد والمال والمعلومات يأتي من خارج أرضهم، وبالتالي متى ستخرج الملايين على امتداد العالم للتضامن مع الملايين الذين قُتِلوا في العراق، ومئات الآلاف الذين أُزهِقَت أرواحهم في سوريا وفلسطين وليبيا واليمن وأفغانستان دونما سبب. فهل هؤلاء القتلى كلّهم إرهابيون، بحيث إنّ العالم أوقف عمليات إحصائهم وما عاد يذكرهم حتى بنشراته الإخبارية؟

مليونية فرنسا ما كانت لتكون لو أنّ العالم فقدَ إنسانيته كلّياً، كما وأنّ جريمة «شارلي ايبدو» الإرهابية ما كانت لتكون لو أنّ المعنيين عالجوا جريمة نشر الصوَر المسيئة للرسول في الوقت المناسب.

كما وأنّ اجتياح العراق الذي أتى على البشَر والحجر ما كان ليكون لو لم تزوِّد حفنةٌ من الأغبياء الإدارةَ الاميركية حينها بمعلومات خاطئة وفقَ ما أعلنَ أبناء العم سام. ومنازل السوريين ما كانت لتسقط على رؤوس ساكنيها لو أنّ القطبَين الدوليين ومَن يدور بفلكهما لم يغلّبوا مصالحهم واستراتيجياتهم على دم الأطفال السوريين.

اللافت في المشاهد والمواقف الآتية من باريس خلال الأيام الماضية هو أنّها تزامنَت مع أنباء وصوَر أطفال يسقطون واحداً تلوَ الآخر جرّاء «إرهاب زينة»، لكنّ أحداً في هذا العالم، حتى في عالمنا العربي، لم يخرج في تظاهرة ضد «إرهاب الصقيع» الذي لا يزال ينخر أجساد الأطفال السوريين في مخيّمات اللجوء. فمتى سيتوقّف العالم عن الكيل بمكيالين، ويتضامن مع أيّ ضحيّة، دون الأخذ بالاعتبار اللونَ والعرق والانتماء الديني؟