تماماً كما شكّل الدخول العسكري الأميركي المباشر في سوريا الى جانب قوات التحالف ضد «داعش» بداية مرحلة صعبة في المنطقة، فإنّ إعلان واشنطن عن انسحابِ قواتها العسكرية يعني أيضاً الإعلان عن بدء مرحلة جديدة ربما كان أفضلَ مَن وصَفها وزيرُ الخارجية الأميركية نفسه حين قال: «عندما تتراجع الولايات المتحدة الأميركية تأتي الفوضى».
في 7 شباط المقبل تقرّر اجتماعٌ لدول التحالف العاملة في سوريا. ولا حاجة لكثير من التحليل والتمحيص، فالعدّ التنازلي للانسحاب الغربي الكامل من سوريا قد بدأ ايضاً ولو انه سيكون على مراحل.
وفي تلخيص سريع لنتائج الانسحاب العسكري الاميركي يمكن التوقف عند النقاط الآتية:
1- دفع الاكراد الى احضان دمشق وهو ما تتولّى موسكو إخراجه وفق صيغة تُرضي الجميع.
2- زوال القواعد الاميركية التي كانت تراقب خطوط الإمداد العسكرية الايرانية الى «حزب الله» من العراق الى لبنان، وهذه النقطة هي اكثر ما أثار إسرائيل ودول الخليج العربي.
لكنّ واشنطن تعمل في المقابل على وضع آلية لمراقبة هذا الطريق من بُعد ووضع ضوابط له، كمثل انشاء قاعدتين عسكريّتين داخل الأراضي العراقية ولكن في محاذاة الحدود مع سوريا تشغلها «القوات الخاصة» وتنطلق بمهمات خاصة داخل سوريا على شكل غارات وعمليات خاطفة.
3- سيسمح الواقع الجديد بشيء من «الأوكسيجين» لفلول «داعش» وبالتالي اعادة تنظيم وتفعيل بعض خلاياها. صحيح انّ البنية التحتية لهذا التنظيم الارهابي والهرَمية التنظيمية له تمّ تدميرُها كلياً، اضافة الى مقتل السواد الاعظم من كوادره المهمة والذين كانوا من العراقيين في غالبيتهم.
لكن ما تزال هنالك فلول وخلايا مشتّتة سيسمح غيابُ الرقابة بإعادة تفعيلها ما يعيد طرحَ السؤال: هل فعلاً تحتاج المشاريع السياسية لخدمات «داعش» والإرهاب، بعد أن اصبح حضورُها ضيّقاً وصغيراً وبالتالي اصبحت تحت «السيطرة» وسهلة التوجيه؟
كل هذه النقاط تعني أنّ المنطقة باشرت دخولها في مرحلة جديدة ما تزال غامضة لناحية الاهداف المطلوبة. هي مرحلة التحوّلات الكبرى في الشرق الاوسط التي تشهد اندفاعةً تركية لدور اساسي، وسيطرة غير مفهومة لـ«جبهة النصرة» على كل ريف حلب الغربي وعلى اكثر من 60% من ادلب على حساب فصائل محسوبة على تركيا من دون أن تتحرّك أنقرة ربما في اطار وضع ادلب في موازاة منبج وشرق الفرات.
كذلك فتح الطريق، لو تحت الرقابةـ ما بين إيران وشاطئ البحر الابيض المتوسط، وخصوصاً منح إسرائيل دوراً جديداً لتترأس محوَراً عربياً في مواجهة النفوذ الإيراني.
وحيث يُحكى عن مشاركة رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو في القمة الدولية حول إيران والشرق الأوسط التي دعت اليها واشنطن في 13 شباط المقبل، إذ يُعمل على عقد لقاءات بينه وبين رؤساء الوفود العربية المشارِكة وهي السعودية ودولة الإمارات ومصر والأردن والبحرين والمغرب.
وهذا سيمنح نتنياهو دفعاً هائلاً له قبل شهرين على انتخاباته الداخلية، وهو الساعي الآن الى اعترافٍ أميركي بسيادة إسرائيل على الجولان.
وفي مرحلة التحوّلات الكبرى ايضاً ترتيب روسي لقيام الرئيسين المصري واللبناني بزيارتين الى دمشق على غرار زيارة الرئيس السوداني أخيراً، كون روسيا ستلعب دور الراعي المباشر في المنطقة.
في اختصار، وفي اطار الترتيب الجديد، خريطةٌ جديدة ما تزال غير «نقية» تؤشر الى نزاع بين معسكرَين ولكن مع نزاعات جانبية داخل كل معسكر وأدوار جديدة.
وفيما تعمل واشنطن لتأمين انسحابٍ آمن لقواتها، وهو اكثر ما يقلقها، عبر وضع سفن حربية في البحر الأبيض المتوسط، فهي أرسلت رجالات إدارتها الكبار الى عواصم المنطقة لطمأنتها.
جولة مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون لم تكن موفّقة، لكنّ الأهم كانت زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو الذي حمل مهمة استيعاب التداعيات السلبية لقرار الانسحاب الأميركي وطمأنة «الحلفاء». ومِن جامعة القاهرة باشر بومبيو مهمته برفع السقف عالياً في وجه إيران و«حزب الله».
وصحيح أنّ بومبيو أغفل محطة بيروت من برنامج زيارته ما أثار لغطاً، إلّا أنه استعاض عن ذلك بإرسال الرجل الثالث في الوزارة السفير ديفيد هيل.
وفي إثبات جديد فإنه لو كانت هناك ترجمة فعلية لكلام بومبيو العالي السقف ضد «حزب الله»، لكان أدرَج بيروت في برنامج زياراته واطلق منها مواقف قوية مع طلب لائحة شروط من السلطات اللبنانية.
لكنه لم يفعل بل أوفد الرجل الثالث والذي شغل سابقاً موقعَ سفير بلاده في لبنان رغم أنّ هيل ردّد مواقف عالية السقف في وجه إيران و»حزب الله» انسجاماً مع السياق العام لكلام بومبيو.
ومع بدء جولة بومبيو نفّذت إسرائيل غارة قرب دمشق جاءت كسابقاتها أي «صوتية» أكثر منها عملية أو «مؤذية»، في تأكيد لـ«وظيفة» إسرائيل كزعيمة للمحور المناهض لإيران.
أما مع وصول السفير هيل الى لبنان فإنّ إسرائيل اعلنت انتهاء عملية «درع الشمال» مع «اكتشاف» النفق السادس والأخير، وهي عملياً عبر هذا الموقف تعلن عن فكّ أيِّ احتمال لتصادم أو اشتباك مع «حزب الله» عبر منع أيِّ شكل من أشكال التماس معه.
وفي موازاة ذلك نشر موقع «ديبكا» الاسرائيلي ما يشبه التبرير للداخل الاسرائيلي بأنّ «حزب الله» أعاد في 17 كانون الاول الماضي نشرَ قواته في جنوب لبنان بكل هدوء بحيث لم تعد قواتُه على تماس مع القوات الاسرائيلية، وجمّد العملَ بشبكات اتّصالاته العسكرية وتوقف عن إرسال التعليمات الى مراكز القيادة ووحداته القتالية، كما جاء في الموقع المعروف بقربه من الاستخبارات الاسرائيلية.
ووفق ذلك فإنّ الاشارة واضحة الى أنّ أيّ مواقف عالية السقف قد تصدر عن هيل انما تبقى بلا ترجمة عملية، كما أنّ الهدف هو بالحدود البرية وربما البحرية في مرحلةٍ تالية.
لكنّ زيارة هيل، لا بومبيو، الى بيروت تعني أنّ لبنان ليس اولوية في هذه المرحلة الفوضوية، وهذا مؤشر جيد ومطمئن، لا بل اكثر، فلقد ورد في بيان السفارة الأميركية مع وصول هيل وفي خطوة نادرة عن تأكيد دعم واشنطن القوي للدولة اللبنانية بما في ذلك مؤسساتها الامنية الشرعية.
ووفق هذا البيان الذي لا يصدر عادة في بداية زيارات مماثلة، فإنّ واشنطن تدعم بقوة ووضوح المؤسسات الأمنية وفي طليعتها الجيش اللبناني. الى درجة انّ اوساطاً ديبلوماسية معنية تقول إنّ المحطة الأهم في زيارة هيل الى لبنان ستكون في قيادة الجيش.
وأخيراً كان رئيس الحكومة الإسرائيلية قد طلب من وزير الخارجية الأميركية خلال لقائه العاجل به وقف المساعدات العسكرية الأميركية للجيش اللبناني، زاعماً أنّ «حزب الله» نجح في اختراق المؤسسة العسكرية بمقدار كبير.
رفض بومبيو الطلب الاسرائيلي، ولم تكتفِ واشنطن بذلك فقط، بل إنّ وزارة الدفاع الأميركية وعلى رغم التعديلات الواسعة في برنامج مساعداتها العسكرية لجيوش دول أخرى، أبقت على برنامج المساعدات نفسه للجيش اللبناني والذي يشكّل سنداً اساسياً له ولفاعليته. لا بل إنّ وزارة الدفاع الأميركية ادخلت مساعدات جديدة تطاول تزويد الجيش أسلحة جديدة وتأهيل وتحسين مطار حامات العسكري وتفعيل برنامج التدريب. ولهذا معناه البليغ.
وسيبلغ هيل بذلك قيادة الجيش، التي كانت تعرضت لحملات داخلية وخارجية في هذا الاطار. وهو ما يعني أنّ السقف العالي للمواقف الأميركية شيء، والمضمون الفعلي شيء آخر على رغم القراءات الخاطئة لدى كثير من اللبنانيين والتي هي أقرب الى تمنيات منه الى قراءة حقيقية وباردة للأوضاع.