IMLebanon

عندما تصبح النفايات إنذاراً معجّل التنفيذ

كما لم تكن أزمة النفايات، لا على بال ولا على خاطر المسؤولين، والتي تكاد أن تكون فريدة من نوعها في العالم كله، كذلك كان أمرهم مع تلك الحراكات المدنية التي أطلقتها تلك الأزمة المستجدة والمستنبتة من أعماق سبات إجتماعي عميق، ظن الكثيرون أنه ومجتمعه اللبناني الواسع، قد فارق الوعي، ويكاد أن يفارق الحياة بكل ما فيها من نبض وحيوية ومعالم متحركة، حتى لبات المشهد العام يوحي بأنه قد تم الإستغناء عن وجود هذا الشعب منذ سنوات عديدة، إمتدت مراسمها على مدى يناهز الأربعين عاما، بعدما طاولته جحافل القتل والإعتقال والإضطهاد والتهجير والتشريد، في شتى أنحاء الأرض اللبنانية الضيقة، وفي سائر أنحاء العالم، وسرت على اللبنانيين جميعا سنّة الله في خلقه، فمنهم من قضى ومنهم من ينتظر.

وكان ما لم يكن متوقعا ولا منتظرا بهذا الإنفلاش الواسع والإشتداد الحاد. فجأة أطلت على البلاد، أكداس النفايات التي أودعت في الشوارع وبيوت الناس والأماكن والساحات العامة، فاستيقظ ذلك اللبناني الغارق في سبات عميق، ودب في أوصاله نبض الوعي والحياة، وبدأت الهيئات المدنية تصحو من غفوتها الواحدة تلو الاخرى، إلى أن كان يوم السبت الفائت، فأبهرت مظاهراته اللبنانيين، بتلك الأعداد الكبيرة التي استوعبتها ساحات بيروت الرئيسية، وفي طليعتها، ساحة رياض الصلح. المفاجأة بها وباتساعها وبنجاحها في استقطاب هذا العدد الهام من أبناء القطاع المدني، طاولت الجميع، طاولت عموم اللبنانيين اولا، وطاولت فيهم 8 و14 آذار على حد سواء بكل أحزابهما وفئاتهما وتوجهاتهما، وطاولت معهم جميعا، حكومة مشلولة، ولو لم يكن يرأسها ذلك الآدمي الرصين والحكيم الرئيس تمام سلام، ولم لم يكن عذرها معها ومنها تجاه ذلك الشلل الذي يطاولها بفعل الفاعلين وتآمر المتآمرين واستهداف المستهدفين، قريبة وبعيدة المدى، ولو لم يكن عذرها معها وهي قابعة في زاوية الشلل نتيجة لاستقتال العماد عون في الجموح والطموح نحو الرغبة الطاغية في الوصول إلى كرسّي الرئاسة الأولى، كائنا ما كانت الموانع وكائنا ما كان الثمن ونتيجة لسياسة إيران القابضة على كل الحركات والسكنات في هذا البلد… لولا ذلك، لما كانت كل هذه الأحداث المستجدة التي منعوها بكل الأساليب الضاغطة والمعرقلة، وصولا في ذلك إلى حدود اختلاق الشغب المفضوح واعتماد أساليب الشوارع في مجلس الوزراء، الأمر الذي ترك المجالات فسيحة واسعة أمام غضبة شعبية كبرى تمثلت بما سمعناه ورأيناه ولمسناه من حراك شعبي، إفتقر مع الأسف إلى حماية نفسه، ممن أسموا بالمندسين والمشاغبين الذين أوجدوا لتحركاتهم أمكنة ظاهرة وخفية في إطار المظاهرات التي انطلقت، ومن أولئك الذين أدخلوا أنفسهم في صلبه عن سابق تصور وتصميم، مدفوعين ومدعومين من جهات سياسية داخلية وخارجية مكشوفة ومعروفة، الأمر الذي أوضحه بقليل من التصريح، وكثير من التلميح وزير الداخلية نهاد المشنوق، ولكن الأصح من ذلك كله، أن قطاعات واسعة من صلب هذا الشعب اللبناني المكبوت والمقهور قد نزلت إلى الساحة بفيض من الغضب والإحتقان طويلي الأمد، والشعور المتأصل لديها بأنها تعيش منذ عقود عديدة، في دولة منقسمة على ذاتها وبين فئاتها وجهاتها، غارقة في حياة الفساد والإفساد إلى درجة الوقاحة التي لم تعد تستحي، فأخذت راحتها بأن تفعل ما تشاء، دون أن يكون لها أي شأن أو احتساب او محاسبة مع أي حسيب أو رقيب.

نسلّم جميعا بأن انقسام لبنان، ما بين دولة تكاد أن تفارق الحياة، خاصة في غياب مؤسساتها عن الوجود والعمل وفي طليعتها مؤسسة رئاسة الجمهورية مرورا بمجلس النواب ووصولا إلى الرمق الأخير المتمثل بمجلس الوزراء، وبين دويلة أعطيت كل مقّومات الدولة الطائلة والفاعلة والقادرة منذ عهد الوصاية السورية، وعُهِدَ إليها بمقاليد البلاد والعباد، وباتت تأمر الجميع بوجوب طاعتها، بما فيه توجيه «الأوامر» المتمادية بوجوب الرضوخ إلى طموحات ومطالب العماد عون، وتحذر من اللجوء إلى «كسره» وإلاّ فهي ستنزل وإياه إلى الشارع، وقد سبق للجنرال أن نزل في المرحلة الأخيرة إلى شارعه مرتين، فكان نزوله ضئيلا شحيح العدد والأثر، وعندما يهدد النائب الحاج محمد رعد بمواكبته في التظاهر، فإنما يعني أن الزخم والعدد الواسع سيكون للحزب وليس للجنرال، وسيرد له بذلك أكداسا من الجمائل التي قدّمها ويقدمها له ولتوجهاته داخل البلاد وخارجها بما هو مكشوف ومعروف، وبما بات اللبنانيون عموما والمسيحيون منهم خصوصا، يدفعون أثمانه السلبية البالغة، وسيعرف اللبنانيون مرّة أخرى أن الإمرة الحقيقية والمؤثرة، والقادرة على التجييش الواسع، هي للحزب وليس للجنرال.

الجميع فوجئوا إذن بالمظاهرات الأخيرة، وهي، خاصة إذا ما نجحت في تخليص نفسها من أدران العوالق المتدفقة إليها والمدفوعة باتجاهها والراكبة على ظهرها، قد أطلقت نحو الجميع إنذارا وتحذيرا حقيقيا بأن تيارا مستقلا ربما يكون قيد التكون الفعلي والإنشاء المنظم والفاعل، إن عرف كيف يصون نفسه وكيف يضع لتحركه خارطة طريق منطقية مرتكزة إلى الأفق الواسع والخبرة المعقولة التي لا بد من وجودها لانجاح أي تحرك سياسي وشعبي من أي نوع كان.

وهكذا بدأت أصوات التحسب والتخوف تصدر من أكثر من اتجاه وبأكثر من اتهام.

حزب الله، المنهمك في تورطه في الخارج بما هو معروف من الجميع بمن فيهم أهالي الشبان الذين يلقون حتفهم يوميا في قتال ليس لهم ولا علاقة لبلادهم فيه، وكل الحلفاء الذين يواكبون الحزب في أوضاعه، وفي طليعتهم حزب الإصلاح والتغيير الذي بات في هذه الأيام الإستثنائية برئاسة الوزير جبران باسيل وزير خارجية الحكومة القائمة التي يصر معاليه على أن يعتبر نفسه رئيس جمهورية فيها، متجاهلا في الوقت نفسه كل الأوزار التي لا بد من أن يتحمل حصته منها في المسؤولية، مكتفيا بكل الرضى والسعادة بالمشهدية السوريالية الغريبة والعجيبة التي وضعت في زاوية الإتهام والمسؤولية الوزير محمد المشنوق وحده لا مسؤول معه ولا شريك!

و14 آذار باتت تصدر عن بعض المسؤولين فيها، أصوات تحذيرية، خاصة من مكتبها التنفيذي، ومجلسها الوطني، تتهم فيها الأحزاب التي تتألف منها حركة 14 آذار، بأنها تقف حجر عثرة في توجه تيارهم نحو الشعب والشرائح الوطنية الواسعة، ويرون أن حركة « طلعت ريحتكم» ورفيقاتها وأمثالها من الحركات، أنها كانت أصلا، جزءا من حراكهم الذي تكوّن ونشأ على نطاق وطني شامل في 14 آذار 2005 وكاد في اندفاعاته الكبرى الأولى وفي زخمه الشعبي الهائل، أن يقلب الميزان اللبناني رأساً على عقب، ولمّح كثير من المسؤولين في 14 آذار، غير المنضوين إلى أحزابها، إلى أن تراجعا شعبيا جزئيا قد حصل في أوساطها، وأن انكفاءها عن معالجة الشأن المطلبي إضافة إلى الحركات الشعبية التي بدأت تنشأ هنا وهناك، كانت تنتمي أساسا إلى أجواء 14 آذار، ليست دليل صحة بالنسبة إلى تيارهم، بدليل الشعارات التي اطلقها المتظاهرون (بعيدا عن المندسين) والتي تشبه إلى حد بعيد مطالب بدايات 14 آذار في مرحلة نشأتها الأولى وانطلاقاتها العارمة.

نعلم جيدا أن هذه الحراكات المستجدة، هي حراكات وليدة طريّة العود والإمكانات، وأن كلاّ من 8 و14 آذار يحوزان في وضعهما القائم على أوضاع سياسية وشعبية متجذرة ومتفوقة، هي في واقع حالها، جبال لا تهزّها ريح، ولكن تحسّب المتحسّبين ونقد الناقدين وواقع الحال الإجتماعي والحياتي والمطلبي المزري ، يمكن ان يؤدي إلى فعل العجائب والغرائب.

هي جملة من أجراس الإنذار وقد باتت تقرع. الأوضاع لا تترتّب ولا تستقيم إلا بمعالجات جذرية تأخذ لها خريطة طريق تحدد فيها أولوياتها وتدرجاتها ومنطقها السليم. وفي ما خص القيادة العليا في 14 آذار وتيار المستقبل، نصارح مع مصارحة الوزير مروان حمادة لدولة الرئيس سعد الحريري التي أطلقها قبل أيام من شاشة تلفزيون المستقبل، بأن مقتضيات التطورات الهامة التي طرأت مؤخرا على الساحة اللبنانية باتت تقتضي حضوره ووجوده على أرضها متابعا ومتحسبا لتطوراتها، إن وجوده بات ضرورة وضمانة لسير الأمور على ما يرام، وهذا الأمر يكاد أن يشكل مطلبا وطنيا شاملا سيكون له في حال تحققه أثره الفاعل في مجريات الأمور بصورة جذرية وموضوعية، بعيدة عن استغلال المستغلين وفساد الفاسدين.