Site icon IMLebanon

متى يناقش حزب الله استراتيجيته الإعلامية؟

 

إطلالات نواب الحزب ووزرائه الإعلامية اقتصرت على مناسبات اجتماعية لا يعرضون فيها لملفاتهم (هيثم الموسوي)

مارس حزب الله سياسة «الصمت الانتخابي» طيلة السنوات الماضية، ليفاجأ على أبواب الاستحقاق النيابي أن جمهوره لا يعرف الكثير مما قدّمه له. هو يحاول اليوم تصحيح الصورة متّكلاً على جماهيرية أمينه العام من جهة والإطلالات المكثفة لسياسييه من جهة ثانية، مع ارتفاع السؤال عن السياسة الاتصالية التي اتبعها حزب الله في السنوات الماضية: إيجابياتها وسلبياتها.

 

يستغرب حزب الله مساءلة مناصريه له: ماذا فعل نوابكم لنا؟

وهو ما يدفعهم إلى طرح سؤال مقابل على أنفسهم: لماذا يواجَه حزب سياسي هو من الأقوى والأنجح، ليس محلياً فقط بل على صعيد المنطقة، بمساءلة قاسية عن أدائه من جمهوره؟

الإنجازات التي حققوها كثيرة ومكلفة. هي لا تقتصر على التحرير من الاحتلال وطرد الجماعات المسلّحة، بل تتجاوزها إلى الخدمات التي يقدّمونها إلى جمهورهم من فرص عمل وماء وكهرباء وطبابة ونظافة إلخ. هم راضون نسبياً عن تأمينهم ظروف عيش كريمة لكثيرين في ظلّ تراجع دور الدولة. فلماذا لا يرى الناس كلّ هذا؟ ولماذا يجد الحزب نفسه مضطراً اليوم إلى عرض إنجازاته في كتيّب، متّبعاً سياسة لطالما تهرّب منها: الحديث عن تقديماته، التي يشعر بأن الناس تتعامل معها بوصفها أموراً بديهية، في حين أنها كلّفت مئات آلاف الدولارات.

الإجابة التي يقدّمونها هي: الإعلام. وفي ما يبدو كأنهم شخّصوا المرض، تراهم يتناولون الدواء بشكل غير مدروس، من خلال صفحة إلكترونية من هنا، أو إطلالة تلفزيونية من هناك، علماً بأن بناء الصورة أمر تراكمي، وهذا ما يعرفه الحزب جيداً ونجح فيه عسكرياً، فلماذا فشل فيه سياسياً؟

 

وزير يقتل إنجازاً

مطلع عام 2009، كان محمد فنيش وزيراً للعمل، وكانت قضية العاملات الأجنبيات في لبنان مثارة بشكل كثيف في وسائل الإعلام اللبنانية والعالمية: حالات انتحار، سوء معاملة، وثائقيات وتقارير حقوقية من جمعيات دولية ومحلية عن عنصرية اللبنانيين تجاه عاملات الخدمة المنزلية.

في علم الاتصال، كنا أمام قضية تتفاعل وتشكّل فضاءً عاماً من حولها، ووزير صامت. لذا، صار من واجب الصحافي دفع الوزير إلى الكلام. جرت محاولات متكرّرة للاتصال به، نجم عنها موعد مع مستشاره الذي ذكر في حينه لـ«الأخبار» أن الوزارة أعدّت عقد عمل موحّداً بين ربّ العمل اللبناني والعاملة الأجنبية، ستفرض الالتزام به ابتداءً من شهر آذار من ذلك العام، بالإضافة إلى إجراءات أخرى. عقد العمل هذا كان يعدّ إنجازاً في حينه، لأنه أوّل إجراء ينظم العلاقة غير السوية بين الطرفين، ويضمن للعاملة في الخدمة المنزلية بعضاً من حقوقها (التي لا تزال محرومة منها إلى اليوم)، لذا كان لا بدّ من الحصول عليه لنشره. احتاج الأمر مجدداً إلى اتصالات متكرّرة للحصول على العقد، لتكون «الأخبار» الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي نشرته بمبادرة فردية منها، من دون أن تتلقّف الوزارة الأمر وتعمل على الترويج لهذا الإنجاز، لا من خلال مؤتمر صحافي، ولا حتى من خلال وسائل الإعلام التي يتبع لها الوزير سياسياً.

 

من حسنات سياسة الصمت التي مارسها الحزب عدم الغرق في الشخصنة التي تفرضها وسائل الإعلام

 

في المقابل، حظي مشروع القانون الذي تقدّم به وزير العمل اللاحق، بطرس حرب، لتنظيم العمالة المنزلية، بتغطية إعلامية واسعة له، على الرغم من الانتقادات التي طالته. ومع تسلّم شربل نحاس وزارة العمل، حظي سحب هذا المشروع (لأنه يستثني العاملات في الخدمة المنزلية من الحقوق التي يكفلها قانون العمل اللبناني)، بالتغطية الإعلامية الملائمة له، وكان الوزيران في الحالتين حاضرين للإعلان عن مشروع القانون، أو لتبرير الاعتراض عليه.

لا نعتقد أن اللبنانيين المتابعين لقضية العاملات المنزليات يعرفون، أو يتذكرون، أن وزارة العمل في عهد فنيش هي من أقرّت عقد العمل الموحّد، الذي وصفه ممثل منظمة «هيومن رايتس واتش» في لبنان آنذاك، ورداً على سؤال لـ«الأخبار» التي حملت إليه العقد ليعلّق عليه، بأنه «خطوة على طريق تحسين ظروف عمل هؤلاء النساء». في المقابل، سنجد حكماً من يتذكر مشروع القانون الذي تقدّم به حرب، كما سيتذكرون اعتراض نحاس عليه.

 

سياسة الصمت

إعادة سرد هذه القضية، التي كانت مجال متابعتي خلال عملي الصحافي، تأتي للإضاءة على الـ(لا)سياسة الاتصالية التي يقوم بها ممثلو حزب الله في الدولة اللبنانية. وهي تصلح مثالاً نموذجياً لتدريس الاتصال السياسي: كيف يقتل وزير إنجازاً، وكيف يحوّل وزير آخر كلّ تفصيل بسيط إلى حدث؟ ذلك أن وزير الداخلية الذي كان زميلاً لفنيش في عام 2009، ليس إلا زياد بارود. ولا نعتقد أن اللبنانيين بحاجة اليوم (بعد مرور سبع سنوات على توليه الوزارة) إلى من يذكّرهم به وزيراً، وهو الذي كان حاضراً بقوة في وسائل الإعلام من خلال مهارته في صناعة الأحداث، حتى حين تغيب. فيعقد مؤتمراً صحافياً طارئاً للاحتجاج على ازدحام السير مرة، وينظّم السير مرة أخرى، وتكتب تقارير متعددة عن فشل سيارته في المعاينة الميكانيكية مرة ثالثة، إلخ.

لا يشكل الوزير محمد فنيش حالة استثنائية في حزب الله، إذ يغيب أعضاؤه (الوزيران والنواب) عن الإعلام بشكل لافت: لا يجرون مقابلات، لا يطلون في برامج تلفزيونية، وهم غير حاضرين على منصات مواقع التواصل الاجتماعي (باستثناء صفحة الوزير حسين الحاج حسن على موقع فايسبوك التي أطلقت في عام 2014).

هذا الغياب ناجم عن قرار معلن من حزب الله، يمنع فيه سياسييه من الظهور الإعلامي لتفادي الدخول في سجالات، في ظلّ الانقسام السياسي الحاد الذي خيّم على لبنان في السنوات الأخيرة. وكان بعض الإعلاميين يشتكون من هذا الغياب، ومنهم من اعتبره موجهاً ضده بشكل خاص. بناءً عليه، كانت الإطلالات الإعلامية لنواب حزب الله ووزرائه تقتصر تقريباً على تقارير إخبارية تبثّها قناة «المنار»، وتنقل فيها كلماتهم في القرى التي يزورونها في واجبات العزاء، فلا يتناولون فيها الملفات التي يتابعونها. لذلك لا يعرف اللبنانيون شيئاً عن أداء وزيري الحزب في الحكومة، ويمكنهم أن يردوا «لا إنجازاتهما» إلى تولّيهما «وزارات غير سيادية يصعب تحقيق إنجازات فيها». وهذا ما تنفيه تجربة الوزير الياس بو صعب في وزارة التربية مثلاً.

 

إيجابيات وسلبيات

يمكن تفهّم «سياسة الصمت» التي اتبعها حزب الله، وتعداد إيجابياتها إذا نظرنا إليها من زاوية ما يجب أن يكون عليه العمل السياسي الحزبي. فهي أبقت الموقف السياسي للحزب مرتبطاً بما يصدر عن أمينه العام، وحققت نسبياً رغبة الحزب في «عدم الدخول في سجالات» تقوده إلى حيث لا يريد، كما أتاحت للحزب أن يبقي عمله مضبوطاً بعيداً عن لعبة الإعلام وما تفرضه من شخصنة ومسرحة على اللاعبين، وحدّت قليلاً ممّا يمكن أن تسبّبه من علاقات غير سليمة تنشأ بين السياسي والإعلامي.

لكن هذا الصمت منع اللبنانيين من بناء «صورة» لسياسيي حزب الله، وحال دون تقدير مناصريه للإنجازات التي حقّقها لهم، وهي كثيرة، بحسب ما يظهره الكتيّب الذي أعدّ أخيراً.

صحيح أن الدراسات العلمية تؤكد عدم وجود علاقة مباشرة بين الظهور التلفزيوني والفوز في الانتخابات، وأن الحزب السياسي يتّكل على خطابه وفكره ليقنع الناخبين بالاقتراع للمرشحين الذين يختارهم، لكن هناك تأثير غير مباشر تمارسه وسائل الإعلام على السياسيين، لأنها تسهم في إظهار شخصياتهم، وبنائها حتى. المرشح الذي يدخل بيوت الناس عبر الشاشة يحظى بفرص أكبر من المرشح الذي يتنقل بين القرى. والسياسي الذي يخبر الناس عمّا يقوم به، ويريهم ذلك، يسمح لهم بالقول إنه يعمل، فلا يسألونه لاحقاً: ماذا قدّمت لنا؟ ليجيبهم: «رافقوني لأريكم حجم العمل الذي أقوم به»، أو «عودوا إلى محاضر مجلس الوزراء لتحكموا على أدائي». وهما إجابتان سمعناهما مؤخراً من سياسيين في حزب الله. وأيّ مراقب للأداء الإعلامي الأخير يمكنه أن يسجّل الكثير من الملاحظات التي تستحق الإضاءة عليها.