أمام تفاقم عُقدة تشكيل الحكومة المستمرة في ظل غياب الخطط الرسمية لمواجهة الأزمات المستفحلة، حيث لا صوت غير تطمينات حاكم مصرف لبنان المتتالية لمنع الانهيار الكامل للمالية، عدا عن ذلك، تعلو أصوات كل فريق من جهة تسوّق لأجنداته الخاصة، محوّلة المراكز الرسمية إلى متاريس، ومعيدة المسؤولين إلى ذهنية الأحزاب والميليشيات البالية، فباتت عرقلة تشكيل الحكومة مشروعة بحجة تقوية رئيس الجمهورية، ولكن على مَن؟ على الجمهورية بحد ذاتها ووجود الدولة ومصداقية لبنان تجاه مواطنيه أولاً والمجتمع الدولي ثانياً؟ ومتى تحوّل إفشال القمة الاقتصادية عبر استحضار الماضي الأليم إلى خدمة لاقتصاد لبنان المتهاوي وماليته المهددة؟ وإلى متى سيبقى صندوق بريد لذلك السفير أو ذاك المبعوث، دائماً مهدّدين سلمه الأهلي ووحدته الهشة؟
في حين تشتدّ العواصف من كل حدب وصوب ويعود الوطن الصغير من أوفر الحظوظ لاستعادة دوره كساحة لتصفية الحسابات، تكبر الهوّة بين الأفرقاء، الكل متصلب بمواقفه من دون أية نيّة للتفاوض والوصول إلى حلول وسطى، وكأنها معركة وجودية يرخص كل شيء في سبيلها، حتى لو كان ما تبقى من دولة ومؤسساتها، جاء اجتماع بكركي في محاولة للملمة البيت المسيحي وتأمين حد أدنى من التوافق في التصدي لما يستشعره فريق كبير من اللبنانيين كونه انقلاب على الطائف، فجاءت النتائج دون خطورة الملفات الدقيقة المطروحة.
إن لمّ الشمل الذي حصل هو خطوة مهمّة ولو أنها الأولى في رحلة توحيد الصوت الفعلية التي يبدو أنها لا تزال طويلة، إلا أنها لا تزال تحتاج لوعي كل فريق لمدى خطورة الوضع القائم. والأمر نفسه ينسحب على الطوائف الأخرى، ولو بنسب مختلفة، كون الانقسامات لا تزال عميقة، وأكثر ما يدعو إلى القلق هو ترسيخ القناعة أنه لن يتغيّر من مقاربة الأفرقاء للواقع إلا عبر صدمة معينة في مكان ما، وحيث لا بريق أمل على أنها ممكن أن تكون إيجابية في ظل المشهد القاتم المحيط، فيبقى الخوف، كل الخوف، على اقتصاد أجهزت عليه الخلافات السياسية والأجندات الضيّقة، وأمن هش ممكن أن يسقط عند أوّل هزة داخلية أو رسالة خارجية.
إن توسيع لقاء بكركي لإحياء الوجدان اللبناني ككل في محاولة لرأب هذا الصدع العميق بات ضرورة لأن إنقاذ لبنان هو مسؤولية الجميع، والإبقاء على الطائف أو التوافق لتعديله لن يتم إلا بالتنسيق بين الجميع، ولن يستطيع فريق أن يفرض رؤيته على الآخر مهما تعاظمت قوته، لأن لبنان أولاً وآخراً هو صيغة عيش مشترك، يوم تسقط يسقط معها الوطن، فهل من فريق مستعد ليتحمل هذه الوصمة في تاريخه؟
مهما احتدّ شدّ الحبال وتطوّر الخلاف، لقد تعلمنا من تجارب مرّة، ودموية في الكثير من الأحيان، إننا محكومون بالتفاهم واللاغالب واللامغلوب، فإلى أن يحين وقت الحوار الجدي، أي أن تتبلور ملامح الصراع الدولي والإقليمي بحده الأدنى، يبقى المطلوب من الدولة، وما تبقى من مؤسسات، إدخال الاقتصاد إلى غرفة العناية الفائقة منعاً لالتقاط المزيد من الجراثيم والتي من الممكن أن تقضي عليه، وإحاطة الأمن برعاية خاصة لأنه عرضة للنكسات مع تمادي البعض في الخطاب الطائفي المقيت والذي غالباً ما يلقى الآذان الصاغية عند شريحة معينة يسوقها التعصب، وعند بعض الشباب الذي لم نتفق على تاريخ لنعلمه منه دروس العمر حتى لا يقع يوماً بالمحظور الذي كلّف لبنان ما يزيد عن العشرين عاماً من التخلف والتأخر عن ركب الحضارة والإنماء، الذي كان رائداً بهما يوم كان منارة الشرق ومثال يتطلع إليه قادة المنطقة، كما ذكر محمد بن راشد في كتابه، فاتحاً جروح جيل عايش الستينيات من تاريخ لبنان وجيل شاب يحقد على طبقة سياسية أمعنت في إطفاء هذه الشعلة وحرمته أن يعيش في نورها!!