المطالب الاصلاحية التي يرفعها الحراك المدني الشعبي في ساحات المدينة، لا علاقة لها بأعداد المتظاهرين أو المعتصمين هنا وهناك. وهذه الأعداد قد تزيد أو تنقص موسمياً بحسب ظروف الحياة اليومية وتقلباتها… ولكن من الثابت أن شعارات الحراك الشعبي هي المعبر الحقيقي والصادق عن الوجدان العميق للمجتمع اللبناني، ومعاناته من خلل متجذر في بنيته، مما انعكس خللاً في مختلف مقومات الحياة والمعيشة لغالبية ساحقة من الناس. ويمكن حصر أسباب هذا الطوفان من الشكاوى والغضب العام والحراك الشعبي بأمرين: الطائفية والفساد، وهما وجهان لعملة واحدة… وهما الجذر الحقيقي لكل خلل في لبنان: اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، وعلى كل صعيد.
***
أزمة النفايات كانت هي النقطة التي فاض بها الكيل، والصاعق الذي فجّر كل هذا المخزون من الاحتقان المتوارث على مر العهود. وكان تدفق الناس العفوي على الشوارع والساحات للاحتجاج هو رد فعل طبيعي، ساهم في ضبطه والتعبير عن نفسه وجود بعض هيئات المجتمع المدني من شبيبة لبنان. وحالة الشلل في مؤسسات الدولة اللبنانية ستكون من العوامل الأساسية لاتساع نطاق هذا الحراك، لتعذر التوافق على حلول، ولو في الحد الأدنى، تساعد على امتصاص بعض النقمة، أو تنفيس بعض هذا الاحتقان. وهذا يعني أن الانتفاضة الشعبية ستزداد اتساعاً وشمولاً، وهو الأمر الذي سيشرع الأبواب والنوافذ علي أخطار كبيرة تهدد حتى الوجود اللبناني نفسه! لماذا؟
***
الحراك المدني في تكوينه الراهن يشبه الدولة اللبنانية في ما آلت اليه اليوم… فكلاهما بلا رأس! الدولة بلا رئيس والحراك بلا قيادة موحدة. وكلما تشعّب الحراك وتوسّع، وفي وجود فراغ حكومي، يقود الى وضع متفجر، اذ تكفي شرارة واحدة الى اندلاع حريق مدمر! ومحتوى الحراك المدني اليوم بأسبابه ونتائجه هو أكبر من أن يترك لشبان، مهما بلغوا من الطهارة، فهم تنقصهم التجربة والحنكة والرؤية، لايصال الحراك الى أهدافه السامية والتاريخية. وهناك حاجة ملحة الى قيادة خبيرة ومحنكة ووازنة، تمثل فئة من المجتمع اللبناني، اذا انحازت الى هذا الحراك، فإن وزنها سيكون عاملاً جازماً في اخراج لبنان من مأزقه التاريخي، ووضع أسس دولة مدنية تتخلص من الطائفية، وتلجم الفساد، وتضع ما يظهر منه تحت المساءلة والمحاسبة والعقاب… ولكن من هي هذه الفئة؟
***
هذه الفئة هي قضاة لبنان! وكان من المستغرب أن يظهر أصلاً حراك الاصلاح من بعض هيئات المجتمع المدني، وليس من القضاة أنفسهم، وهم الجهة القانونية الصالحة لوضع أسس الدولة الحديثة. بل ان التجربة التاريخية أثبتت أن المجتمع الذي تجتاحه وتحتله مافيا الفساد وتتغلغل في مفاصل الدولة، فإن الانقاذ لا يمكن أن يأتي الا عن طريق القضاة. وعندما عجزت كل هيئات المجتمع المدني عن وضع حد لمافيا السلطة والفساد في ايطاليا، فإن الجهة التي نجحت في ذلك كانت ثورة القضاة في ايطاليا، التي تحدّت الفساد، واعتقلت المافيا والكثير من زعمائهم وزجتهم في السجون، في معركة طاحنة دفع فيها القضاة ثمناً باهظاً من حياتهم.
***
يحتاج لبنان اليوم الى قاضٍ شجاع وله من العنفوان والكرامة ما يكفي ليطلق نداء ثورة القضاة ضد مافيات الفساد في لبنان، داخل الحكم وخارجه، كما فعل القاضي الايطالي جيوفاني فالكوني الذي أعلن الحرب على المافيا، رافعاً عليها سلاح القانون، وهزمها! بدأت معركته عام ١٩٨٧ وكان يشغل منصب قاضي التحقيق في المحكمة وتجرأ على زج أربعمائة من رجال المافيا في السجن، وكانت سابقة لا مثيل لها في مجتمع خانع لحكم المافيا! وظل طوال عشر سنوات يعمل في قبو مضاد للقاذفات تحت بناية المحكمة، بعد محاولات المافيا العديدة لاغتياله، واغتالته فعلاً بعد ذلك مع زوجته وبعض حراسه في العام ١٩٩٢!
***
من أجدر من قضاة لبنان لقيادة الحراك المدني نحو الاصلاح والدولة العصرية؟ أين أنتم يا قضاة لبنان؟ أين ثورة القضاة ضد مافيا السلطة والفساد والطائفية في لبنان؟!