Site icon IMLebanon

من أين كل هذا الحقد؟!

كلام في السياسة | 

ليس بسيطاً حجم الحقد الذي يجتاح العالم. جريمة قتل المصلين في تشارلستون في الولايات المتحدة، كأنها صور بالأبيض والأسود من عقود ماضية. خمسون سنة على سقوط مارتن لوثر كينغ كأنها لم تكن. كأن شيئاً لم يتغير. كأن المعادلة الجهنمية وحدها سيدة الموقف: لم ننس شيئاً ولم نتعلم شيئاً. السجال العنصري فتح مجدداً على مصراعيه، من قضية حيازة الأسلحة، إلى الراية الكونفدرالية على مبنى الكابيتول. ومن مسؤولية المجتمع الاستهلاكي عن توليد الهامشيين والمنبوذين، إلى تحويلهم هو نفسه، لهم إياهم، قنابل موقوتة جاهزة لتفجير نموذجه.

وصولاً طبعاً إلى مسألة العنصرية الجوهرية في قلب التاريخ الأميركي، وفي حاضره المتكون كل يوم على قاعدة بلد المهاجرين واقتصاد السوق. في النتيجة ليس عابراً أن يموت المصلون. أن يقتل مؤمنون. أن يتحولوا ذبائح على مذبح إيمانهم، بجريمة نوع خلية في بشرتهم. هي الرسالة المطلقة في حقدها وكراهيتها، أن تقول لإنسان أنك ترفضه، حتى وهو في لحظة تعبده للرب. أن تقول له أنه ممنوع من الحياة، حتى لحظة تطلعه إلى حياة أبعد من هذه. أن تبرهن له إلغاءك له في ذروة إلغائه لذاته في إيمان أخروي…

في فلسطين المحتلة، في اليوم نفسه، كان المتطرفون اليهود يحرقون كنيسة تاريخية. هي في التقليد الكنسي المسيحي كنيسة المكان حيث اجترح يسوع معجزة تكاثر الخبز والسمك. ليس الاعتداء تهديماً لتراث عالمي وحسب. ولا هو جريمة بالمعنى القانوني الوضعي. بل أكثر من ذلك. أنه تعبير واع أو لاواع، في الحس الأنتروبولوجي للفرد المرتكب، وللجماعة المشكلة بيئته الحاضنة، أننا نريد إحراقكم. نريد إفناءكم. نريد للنار أن تلتهم كثرتكم وعددكم وخبزكم وطعامكم. نريد لكم جهنماً ههنا، لأننا مختلفون حول عقائد جهنم الأخرى…

فظائع داعش وأخواتها تمثل قمة أخرى من قمم الحقد. لا بل بلغت حداً غير مسبوق ربما في تظهير الوحشية المنبثقة من «إيمان الحقد». لم يعد القتل يكفي. صار التمثيل في أثناء القتل أهم من القتل نفسه. لا بل صار التفوق على حد الوحشية في كل مرة، هدفاً يوازي هدف القتل نفسه. غير أن ظاهرة أخرى يجدر التوقف عندها في قضية الحقد الداعشي، ألا وهي هدم القبور. صحيح أن وحشييها يسندونها إلى عقائد دينية مزعومة وتفسيرات وتسويغات. لكن في قعر وجدان تلك الممارسة، في جانبيتها النفسية العميقة، هناك تفسير آخر لها. أن الوحش الداعشي لم يكتف من قتل ضحيته. لم يشف غليل حقده بقتله. ولم يرو ظمأ وحشيته بالتمثيل بجثته. لذلك ذهب يكمل تنفيس حقده حتى ما بعد الموت وحتى في آخر ما يرمز إلى ضحيته. يقول لها إنه يرفض وجود صاحبها حياً أو ميتاً. يتآكل تحريضاً لإلغائه كإنسان، وإلغائه كجثة، وحتى إلغائه كذكر وذكرى. ممنوع أن يمثل في فضائه بأي شكل من الأشكال. ولا حتى بحجر يعلو الأرض…

مرعب هذا المشهد على امتداد الأرض. يطرح أسئلة كثيرة وخطيرة. منها ما يقارب البعد الاجتماعي للفرد، عبر العودة إلى إشكالية السوسيولوجيا، والبحث مثلاً في أساس تشكيل المجتمع البشري. المجتمع الذي يقال إن في مرتكزه الأول «إرادة العيش معاً». فيما عوارض الحقد الجماعي في الأرض تدل على أن بعض العالم، كثيرين منهم، لا يريدون العيش مع بعضهم. وهو ما يدل سوسيولوجياً على حالة العودة إلى عصر ما قبل التجمع الإنساني. إلى عصور البربرية… ومنها ما يصيب البعد الديني مباشرة، مع إعادة طرح إشكاليات فلسفية سياسية، مثل السؤال حول الديمقراطية كنظام بشري، ديني – سياسي، تسير إليه كل شعوب الأرض. كان ثمة اعتقاد أن كل العقائد الإيمانية تتطور تدريجياً صوب القبول بالديمقراطية كأفضل نظام لحكم البشر. وذلك بشكل متزامن مع ترقي الفكر الديني. بحيث تخف نزعة الاحتكام إلى السماء، وتتعزز واقعية أن فلنحيا الأرض أولاً. إذ من العبث المجنون المطلق في زمن الاستنساخ والإنترنت أن نقتتل حول أرض أخرى. نظرية تسقط في عالمنا الراهن كل لحظة.

تبقى إشكالية تقارب البعد المادي ــــ النفسي للفرد الإنسان. هي نظرية أن كل الحقد الذي يشهده عالمنا منبثق من حلقة نظام العولمة في صعودها وسقوطها. أي من الاعتقاد بأن ظاهرة العولمة ولدت من إحساس الفرد بندرة موارده الطبيعية. فأدرك حاجته إلى التعاون مع الآخر. تعاون بلغ حدود القرية الكونية. لكنه في تلك اللحظة بالذات، شعر بأن هذا النظام الذي ساهم في صنعه من أجل تأمين حاجاته المادية، بدأ يهدد خصوصيته وذاتيته. بدأ يسلبه هويته وانتماءه ويصهره في ماهية أخرى ويذيبه في شخصية غير شخصيته. فانكفأ عن ذلك النظام. وفي سياق انكفائه انكفأ عن التعاون مع الآخر. لا بل ذهب بعيداً في تراجعه، حتى فضل التخلي عن مادياته من أجل ما يعتبره هويته الأولى، الأصلية الأصيلة. وفي طريقه، أسقط الآخر مصدر الخطر على ذاته، فولدت السلفيات، وانطلقت الأحقاد…

أبسط ما في النظرية الثالثة أنها قد تجعل أصل العلة الإرهابية كلها، وأسباب الحقد الجماعي كله في «أمريكا» رمز العولمة. لكننا ندرك تماماً أن مسؤولية الوحوش التي فينا، موازية تماماً.