فعــلها البابا فرنسيس. سحب الايمان من الجدل البيزنطي إلى الجدلية الفكرية. أخرج المسيحيةَ من مضائقِ النصوص إلى رِحاب المعاني والجوهر. لقد أعتق البابا فرنسيس المسيحية من رواسب يهوديتها، ونقى العهد الجديد من نتوءات العهد القديم. نقضَ ليكمل ويفتح طريق الوحدة الإيمانية بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى وسائر الأديان، وبخاصة الإسلام.
مواقف البابا فرنسيس في واشنطن ونيويورك عززت هذه القناعة، بل هذا الإيمان. قدّم إلى العالم كنيسة الانسان. جعل اللهَ انساناً مرة أخرى. أسقط ثنائيةَ الله والشيطان، وثلاثية السماءِ والمطهر وجهنم، وأسطورة آدم وحواء.
منذ التوراة، مروراً بالإنجيل، ونحن نصوِّر الانسان عبداً لله، وها فرنسيس يقدّم الله خادماً للإنسان. قبل المسيحية كان الانسان ينتظر مجيء الله، بعدها صار الله ينتظر مجيء الانسان. منذ التوراة، مروراً بالإنجيل، ونحن نعتبر الشيطان منافس الله، ونضع جهنم مقابل السماء. وها فرنسيس يعيد إلى الله أحاديّته الوجودية وإلى جهنم رمزيتها الشريرة. من يكون حضرةُ الشيطان لينافس الله؟ هذا اختلال لاهوتي تايخي يسيء إلى “مركز” الرب ومطلقيته. لكن حين يُسقط البابا فرنسيس المفهوم المكاني والعذابي لجهنم، فإنه لا يلغي الخطيئة، بل عذاباتها الخرافية. أصبحت الخطيئة مشروع مصالحة الانسان مع ذاته ومجتمعه وكنيسته، لا ذريعة لإقصائه عن الجماعة المدنية والدينية. أصبحت الخطيئة شعوراً بالذنب النفسي لا معبراً إلى العذاب الجسدي.
وحين نزع حصرية نشوءِ البشرية وتناسلها عن آدم وحواء، كشخصين لا ثالث لهما في بدء الخليقة، فإنه لم يمس بثنائية الجنس البشري (ذكرٌ وأنثى) ومندرجاتها الطبيعية والاجتماعية وسلوكياتها الاخلاقية، ولم يفتح باب الاجتهاد أمام ابتداعِ جنسٍ ثالث مخضرم بين الرجل والمرأة بفعل الانحراف التكويني أو الحضاري.
مع البابا فرنسيس، ما عاد الايمان تسليماً بافتراضاتٍ ماورائية وبروايات توراتية وبخرافات موروثة، بل أصبح محاكاة الشك واليقين من خلال العقلِ والقلبِ وقضايا المجتمع. ربط الـمعطى الإيماني بالواقع المعاش المعاصر، إذ كلما التقى الانسان مع السعادة وجد الله. السعادة بمفهوم الفرح لا الترف. هكذا بَـرز يسوع ــــ وهو كذلك ــــ إلهَ النازحين والمشردين واللاجئين والفقراء والمصلوبين بأشكالٍ شتى، إله الأجيالِ والسلام والمناخ والبيئة والانحباسِ الحراري ومكافحة المخدرات والاتجارِ بالبشر. وأساساً كان يسوع في حياته غريباً عن منطقِ الفريسيين والكتبة والرؤساء والعشارين وعن أغنياء خورَزِين وبيت صيدا وكفرناحوم. جمع تلاميذه من الناس العاديين والمتواضعين، ولم يكلم يسوع الناس باللاهوت بل بالأمثال (حـبة الخردل، الباذر، الكــرامون، الابن الشاطر، الخميرةُ، الوزْنات، شبكة الصيد، النعجةُ الضالّة، التينة اليابسة، مصباحُ الزيت، إلخ).
من يلاقي البابا في منتصف الطريق؟ من يهزّ شجرة الإيمانِ الأعمى هنا وهناك؟ من يعيد الأديان إلى أهلها وكتبها وأنبيائها، ويحــررها من أهل الدمّ والأنبياء الكذَبة؟ إن من شأنِ مواقف البابا أن تشجع كلَّ المرجعيات في الأديانِ الأخرى على التفكير جدياً بتطوير مفاهيمها وتقويمِ مسيراتـها وتنقية موروثاتها وإزالة كل ما التصق بها من زوائد أعاقت تقدمها. فإذا كانت المسيحية، وهي الديانة الأكثر حداثةٍ وتقدمية، تــواصل تجديدَ لاهوتها ودورِها وتنتقد نفسها أمام كل العالم، فما حال الدياناتِ الأخرى التي تنوء تحت ثقل الجمود القاتل؟
في هذا السياق، إن المسلمين، وهم الحريصون على الاعتدالِ والانفتاح، ينتظرون بدورهم “فرنسيسَ مُسلماً”، ينتظرون أن تـقدم مرجعياتهم في العالم، لا سيما في العالم العربي، على سلوك نهجِ التجديد الذي أجهضه المتطرفون منذ أواخر القرن التاسع عشر. لم ننسَ الفكر التقدمي لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى المنفلوطي ورشيد رضا وطه حسين. ولم ننس بشكلٍ خاص وثيقة الأزهر التي أطلقها الشيخ محمد الطــيِّب في كانون الثاني سنة 2012، وقد شكـلت منعطفاً في مقاربة الإسلام للثورات العربية فأسّست لاستقرارِ مصر وفضحت المتطرفين والتكفيريين.
نحن المسيحيين، أبناء تعاليم الحياة مع الآخر، نحتاج أيضاً الى هذه الصحوة الاسلامية لأن مشاكلنا في هذا الشرق لم تبدأ مع “القاعدة” و”فتح الاسلام” و”النصرة” و”داعش”، بل مع الإسلام السياسي والقومي.
بعد كل بابا نقول: لن يأتيَ آخر مثله، وسرعان ما يأتي أعظمُ منه. لا يستـمد البابوات عظمتهم من ذاتهم فقط، بل من مسيحـيتهم. يسوع، الإنجيل، الكنيسة يلدون عظماء.
وزير العمل