بعدما دخل لبنان عامَه الثالث يتيمَ الرئيس، لا تزال المبادرات في ملف الرئاسة تُراوح، لا بل إنّها جُمّدت حاليّاً، ولا شيء في الأفق يوحي بإمكان حَلحلتها. وتوازياً مع الترقّب الذي تعيشه الساحة السياسية اللبنانية، أطلّ الرئيس سعد الحريري أمس الأوّل، شارحاً خريطة الطريق التي دفعَته إلى ترشيح رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية، من دون أن يُجدّد هذا الترشيح، ما طرَح علامات استفهام عن مدى الجدّية التي ما زالت تتمتّع بها مبادرته، وما إذا ستصحّ الشائعات التي شكّكت فيها أخيراً.
بات اللبنانيون متيقّظين أنّ الرئاسة اللبنانية ليست إلّا ملفّاً خارجياً مرتبطاً بالأزمة السورية وأزمات المنطقة، وأنّهم لن يشهدوا ولادة رئيس قبل أن تقرّر الدول الكبرى إنهاءَ الحرب في سوريا، إلّا أنّ ما يُدركه اللبنانيون أكثر هو أنّه لا يمكن الإتيان بمرشّح «قوي» للرئاسة، وبالتالي تعتبر الغالبية أنّ ترشيحَي فرنجية وعون هما مجرّد «مسرحية» لتظهير أنّ الخلاف هو فعلاً داخلي، وما الدليل على صحّة هذا التصوّر إلّا كون عرّابَي الحلّ اللبناني في الخارج إضافة إلى أطراف محليين، باتوا يرَون أنّ الخطوة الأولى نحو الخروج من النفَق الرئاسي قد تكون بإقناع الأقطاب الموارنة الأربعة بأنّ حظوظهم الرئاسية استنفِدت، ويجب البحث عن شخصية توافقية.
بالعودة إلى مبادرة الحريري، يشدّد البعض على أنّها لبنانية بحت مدعومة دولياً، رافضين بذلك مقولة إنّها أتت تحت تأثير ضغوط خارجية، بل إنّ هدفها إنقاذ الفراغ الرئاسي قبل كلّ شيء، وهو ما جدّد تأكيده الحريري أمس الأوّل.
وردّاً على التعليقات الأخيرة، تصف مصادر «المردة» لـ«الجمهورية» هذه المبادرة بـ«الجريئة، ففيها ذهبَ الحريري بترشيح شخصية من الأكثر «8 آذاريين».
لكن وعلى رغم الموافقة الدولية عليها، إلّا أنّها اصطدمت بعقبة داخلية اسمُها ميشال عون»، معتبرةً أنّ «الحريري ما زال مؤمِناً بها، وهو ما يظهر جليّاً في مواقفه واستمرار دعمِه لها، إضافةً إلى التواصل المباشر بين الرَجلين»، وهذا ما أكّدته مصادر تيار «المستقبل» لـ«الجمهورية»، مشيرةً إلى أنّ «شيئاً لم يتغيّر من ناحية المبادرة، وترشيحُ تيارنا لعون مستحيل».
بدورها، تشير مصادر «المردة» إلى أنّه «لا يمكن استضعاف مبادرة الحريري، حيث إنّ نقاط القوّة فيها غالبة، بدءاً من ترشيح «المستقبل» شخصاً قريباً من «حزب الله»، مروراً من الدعم الإقليمي والدولي اللذين يَحظى بهما فرنجية، وصولاً إلى تمثيله للوجدان المسيحي ووجوده ضمن «الرباعي المسيحي»، إضافةً إلى انطباق مواصفات بكركي التي وُضِعت للرئيس عليه».
وفي المقابل، تؤكّد المصادر أنّه «لا يمكن اقتلاع هكذا مبادرة إلّا عبر مبادرة توازيها قوةً، ويجب على أيّ مرشّح منافس أن يحظى بغالبية نقاط القوّة التي تتمتّع بها مبادرة الحريري».
وفيما يرى البعض أنّ عون مرشّح مناسب للرئاسة، تعارضُهم فئة أخرى من اللبنانيين التي تَعتبر أنّ الغطاءَين الإقليمي والدولي يغيبان عنه، إضافةً الى عدم رضى السنّة والدروز وجزء من الشيعة، والدليل أنّ فرنجية أكّد أنه في حال حظيَ عون بالدعم الكافي فهو سينسحب لصالحه، إذاً الإقبال على الانسحاب موجود، فلِم لم يسير الجميع بعون رئيساً؟
وتشدّد مصادر «المردة» على أنّه كان يمكن لعون تبرير أنّه الأقوى مسيحياً من خلال فكرة ترؤسِّه لأكبر كتلة مسيحية، لكنّه فضّلَ السيرَ بـ»لقاء معراب» الذي وعلى رغم أهمّية حصوله، إلّا أنّه خسَّر الفريقين رضى حلفائهما عنهما، فمِن جهة دخلت الحزازية في علاقة عون و«حزب الله» نظراً لاتفاقه مع الدكتور سمير جعجع، ومن جهة أخرى تزعزعَت علاقة جعجع بالحريري على اعتبار أنّ الطرفين سارا بترشيحات لا يرضى عنها الطرفُ الآخر، كما أنّ هذا الاتفاق جعلَ «حزب الله» ينظر بعين الريبة تجاه اتّفاق عون وجعجع، بما أنّه في حال اتُفِق على قضايا استراتيجية بين هذين الأخيرين، هذا يلغي إمكانَ توحيد الرؤية بين عون والحزب على المسائل الاستراتيجية، نظراً إلى كونه اتّفق عليها مع خصمِ الحزب، إذاً العلاقة بين عون وجعجع مع «المستقبل» والحزب وإن شكّلت في مكانٍ ما نقطة قوّة، لكنّها تتحوّل تدريجياً لتصبح نقطة ضعف».
من جهة أخرى، تُطرَح علامات استفهام حول جملة تصريحات لا شكّ في أنّ لها أبعادَها السياسية، والتي قد تكون دليلاً على ارتفاع أسهمِ عون، بدءاً من كلام السفير السعودي علي عواض العسيري بأنّ «المملكة لا ترفع «فيتو» في وجه أيّ مرشّح يتّفق عليه اللبنانيون»، وحديث النائب وليد جنبلاط عن أنّ «فرصة فرنجية للرئاسة قد بدأت بالسقوط»، وأنّه يؤيّد انتخاب عون إذا حظيَ بإجماع الأقطاب المسيحيين، ناهيك عن استمرار تأكيد جعجع ترشيحَ عون والسير به حتى النهاية.
إذاً جملةُ تناقضات يحملها الملف الرئاسي، وكلّ يوم تظهر معطيات جديدة تدحض ما جاء قبلها، وتبرز تصريحات عدة تسلّط الضوء على مدى صعوبة حلّ هذا الملف، وفيما يصرّح أحد الزعماء برأيٍ ويدلي آخرُ بمواقف، يتأكّد للّبنانيين أنّ الأزمة ستطول وأنّ حلّها، حتماً، لن يولد على الأرض اللبنانية.