ليس فضيحة مجلجلة أن تقفل صحيفة أو أكثر. هي مأساة اجتماعية حقيقية للعاملين فيها، لكنها ابنة التطور والتقدم. فكم من مهنة انقرضت منذ الثورة الصناعية العالمية؟ ألم تلغِ السيارة طنابر الخيل، ويصبح ساعي البريد ذكرى، وتندر صالات السينما بعد غزو التلفزيون البيوت؟ وألم تلغِ موجة الـ” أف أم” الموجات القصيرة والمتوسطة والطويلة من أجهزة الراديو؟
الصحافة الورقية، اليوم، في العالم، ضحية العولمة العنكبوتية، وما أغلق أبوابه منها موزع في الدول الغنية والفقيرة، وغالبيتها مؤسسات بالمعنى الجدي للكلمة، أي شركات مساهمة، لكل منها دفتر محاسبة واحد أحد، والعاملون فيها يتمتعون بالحقوق كاملة، ولا ينقسم راتبهم بين فوق الطاولة وتحتها، كما في غالبية مؤسسات الإعلام اللبنانية. وللتذكير، كانت مجلة “كريستشن ساينس مونيتور” الضحية الأولى مطلع الألفية، من دون نواح وانتحاب، بل بتقدير وأسف. إذاً، لا رد لقضاء التقدم. لكن من غير المنطقي أن يتخذ “أصحاب الأملاك المطبوعة” من الأزمة مناسبة لحمل رداء الرسل. فإذا كان صعباً التسليم بأن التمريض رسالة، فكيف نصدق أن للصحافة رسالة هي “خدمة القارئ”؟ فالوقائع تظهر أنها مهنة، وككل مهنة هي “باب رزق”، جُلّه يذهب إلى مالك “الإمتياز الصحافي”، والقلة رواتب للعاملين. الأول يدخر الكثير ليومه الأسود، والآخرون بالكاد يسدون قوت يومهم. بخلاف العولمة، لم تقض “حروب الأخوة” العرب، أو “الحرب على الأخوة” على الصحافة الورقية اللبنانية، فهذه قديمة قدم العروبة والإسلام، وهي، أصلا، ما سمح بازدهار هذه الصحافة في غابر الأيام، وموّلها، بوضوح وجلاء، من دون اقرار صريح من الطرفين. ألم يستقبل الرئيس شارل حلو نقابة ناشري الصحف في القصر الجمهوري، في ستينات القرن المنصرم، بالقول: أهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان؟!
لكن حرب لبنان فتحت للعرب فرصة اجتذاب الخبرات اللبنانية، لإصدار صحفهم في بلدانهم، كدول الخليج، أو في أوروبا، كما فعل العراق، أولا، فتقلص “الدعم”، بينما استولدت ليبيا القذافي مطبوعاتها في لبنان. ومع “استقلال” العرب صحافيا، والحرب في لبنان، وتعاظم القوة الشرائية والإستهلاكية في الخليج، ما عاد لبنان سوقا للإعلان، وصارت شركاته مهجوسة بالمطبوعات التي تخرق سوق الخليج، فسقطت مطبوعات لبنان من حساباتها. وكما دخلت ايران الحيز العربي في أعقاب الخروج المصري بخفي “كامب دايفيد”، دخل مالها على الصحافة اللبنانية، على أثر التخفف العربي، حتى صارت القومية العربية تتغذى بالمال الفارسي، في مشهد من اللامعقول واللا منطقي. ثم انتبهت طهران إلى أن الصحافة الإلكترونية أقل كلفة وأسرع وصولا، وتتماشى مع روح العصر، فكيف والأزمة الإقتصادية متفشية لديها، وبكلفة الصحيفة تستولد 10 مواقع إخبارية؟ هذه إحدى الحالات. شجرة تخفي غابة من أزمة الصحافة المطبوعة. ولا يجدي الصراخ، اليوم،”وينيي الدولة”، بل، وبيأس، وينيي النقابة؟