Site icon IMLebanon

الموارنة أين، وليس “إلى أين”

صدرت مجموعة من المؤلفات عن الرؤية إلى لبنان، ومن خلاله، إلى الموارنة، وضعها رجال قادمون من مناهل مفترقة وأحلام متقاربة: “بين الفوضى اللبنانية والتفكك السوري” للدكتور شارل رزق. “الموارنة إلى أين” للأباتي بولس نعمان. و”عمري من عمر لبنان” للأستاذ جوزف أبو خليل.

يجمع بين الثلاثة أنهم عملوا في الشأن الفكري والشأن السياسي معاً. ويجمع بينهم أنهم عاشوا حقبة كان فيها الأمل بالدولة محتملاً، ثم رأوه يتبدد تحت ركام الحرب. ويجمع بينهم، خصوصاً، أنهم انتموا إلى رؤية متخيّلة تحصّنوا فيها، وصعب عليهم الإنتقال إلى “السياسة الواقعية” التي حوّلت لبنان من وطن، إلى كراس بلا قوائم.

كان شارل رزق من اوائل الذين اختارهم فؤاد شهاب لإقامة جمهوريته. وكان جوزف أبو خليل من اوائل الذين رأوا في بيار الجميل صورة الزعيم غير الطبقي الذي سيضم أهل الفئة المتوسطة في بلد مستقر. أما بولس نعمان، الذي اختار الرهبنة باكراً، فكان يرى أن لا شيء يكفي لحماية لبنان من الانهيار، حتى الصلاة.

تهاوى لبنان القديم أمام الحالمين، فظل كل منهم متعلقاً بحبه الأول. لم يخرج شارل رزق من مشروع فؤاد شهاب للجمهورية. ولم يخرج جوزف أبو خليل من مشروع بيار الجميل للحزب. وعبثاً ظل بولس نعمان يحاول ترميم الرميم، فعاد من السياسة إلى الدير.

كان لدى الجميع انطباع أن الأباتي نعمان كان يخوض الحرب مع صقور الكسليك، أو يتقدمهم. فلما أصدر مذكراته قبل اعوام (18 حزيران 2009)، رأينا أنه كان يمضي أصعب ايام القتال محاوراً في دمشق، أو مفاوضاً مع المقاومة الفلسطينية، وأن الراهب المقاتل كان في الواقع أيضاً سياسياً يدرك محدوديات المهزوم والمنتصر. وفي الحرب والسلم، كان له همّ واحد: حماية ما تبقّى من الحلم القديم، الذي تحوّل إلى شظايا متناثرة.

في “عمري من عمر لبنان” يرى كاتب الشيخ بيار في “جورنال العمل” أن رئيس الحزب الوريث منير الحاج، أراد المواءمة بين الكتائب والقيادة القطرية لحزب البعث. وأما الرئيس التالي كريم بقرادوني، فدعا إلى التوأمة مع الحزب السوري القومي. من الصعب أن تعثر على تعبير حاد عند جوزف أبو خليل أو نبرة غضب، لكنه لا يخفي مشاعره حيال نقل “الكتائب” من فكرة الوطن إلى فكرة “القطر”، ومن شعار الارزة إلى شعار الزوبعة. ذلك زمن كان الشيخ بيار خلاله يبحث عن الرفاق بين العمال والقادمين الجدد من الأرياف وطلاب الجامعات الفرانكوفونية، فيما انصرف الزعيم انطون سعادة في الفترة نفسها، إلى البحث عن رفاقه بين اساتذة وطلاب الجامعة الاميركية والعلمانيين غير المتديّنين، مثل جمهور الكتائب الذي انتهى – ولو دون اعلان – جمهوراً مارونياً، يطعَّمُ بركن أرمني من هنا، أو حزبي أرثوذكسي من هناك، لكن “هالة” الشيخ بيار كانت تتكفل دوماً اخفاء الظلال.

كانت الاحزاب التي نشأت في تلك المرحلة، أي بين الحربين، تقدم “الاخلاق” في دساتيرها على كل شيء. انطون سعادة جعل “المناقبية” فرضاً، وبيار الجميل جعل شعاره “الله الوطن العائلة”، وانضم إليه في البداية نخبويون أمثال شارل حلو وجورج نقاش من كتّاب الفرنسية في تلك المرحلة، ولكن في المرحلة التالية انضم كتّاب العربية، ادمون رزق، والياس ربابي، ورشاد سلامة، ولويس أبو شرف، وأمين السر الدائم جوزف أبو خليل.

حاول الزميل جوزف قصيفي أن يقول في “منبر النهار” إن الكتائب ضمت الكثيرين من الجنوبيين في مرحلة ما، أي انها لم تكن حزباً مارونياً كما يُشف من الانطباع العام. ورحم الله الزميل الظريف ابرهيم شماس. لقد كان نائب الرئيس في “حزب النجادة” أيام الراحل عدنان الحكيم، ورفيق اللائحة الانتخابية في عائشة بكار وحوض الولاية، جناح عبّاد الرحمن.

يحاول الدكتور شارل رزق في كتابه “بين الفوضى اللبنانية والتفكك السوري” القول إن لبنان كان اكثر صموداً حيال العواصف من جارته الكبرى، التي تسببت بالكثير منها. ويدور الكتّاب الثلاثة حول الدور السوري في السنوات الأربعين الأخيرة، لكن بولس نعمان يعود بعد صراع طويل في عالم السياسة، إلى الثوب الرهباني، ويؤرخ للموارنة في التاريخ، كما أرّخ لهم من قبل الأب ميشال حايك، الشاعر الصوفي واستاذ الفلسفة في السوربون، والذي كان يلتقي في الفكر والرؤية والتصوف مع كمال جنبلاط أكثر منه مع سياسيي الموارنة.

المارونية التي كانت مرتبطة دوماً بحالة فكرية متوالدة، سلّمت نفسها إلى “النشطاء” السياسيين. لا معلّمون يقفون في الظل ويرسمون حدود المستويات، لا يوسف السودا، ولا فؤاد افرام البستاني، ولا ميشال اسمر، ولا جواد بولس، ولا مانويل يونس. الحقيقة أن طبقة “النشطاء” طردت الطبقة الفكرية من معظم الاحزاب أيضاً. وكان السياسي هو الذي يفاخر بالمفكر، وليس العكس. وكان قلم ادوار حنين اشهر من “الكتلة الوطنية”، وقلم جورج نقاش افصح من الشهابية التي كانت، في أي حال، نهجاً، لا فكراً.

وكان الفكر، أو المستوى الفكري، شرطاً من شروط العمل السياسي والسمعة الوطنية. هكذا كان الشيخ بشارة الخوري أول رئيس استقلالي، وهكذا وصل شارل حلو من غير أن يكون زعيماً على فرد واحد. بُعيد الحرب، انتهت المرحلة التي اختلط فيها العلم بالسياسة. من بساتنة الأمير بشير إلى فؤاد افرام البستاني. ومن بساتنة دير القمر إلى بساتنة الدبيّة. هل خطر لك أن تعرف من كان طلاب عبدالله البستاني؟ شكيب ارسلان. أمين تقي الدين. شبلي الملاط. وأما هو فكان تلميذ ناصيف اليازجي والشيخ يوسف الأسير.

ذلك زمن لم تكن فيه للعلوم نهاية. ما أن تمرَّس الشيخ خليل الخوري (والد الشيخ بشارة) في اللغات، حتى انغمس في دراسة الفقه. هكذا فعل عبدالله البستاني. ومن لم ينصرف إلى السياسة، انصرف إلى الصحافة السياسية، وديع عقل في “الراصد”، والاخطل الصغير في “البرق”، ونحو 60 صحيفة في مصر وحدها والحركة الأدبية في المهجر وفي البلاد.

مع الحرب دخل الموارنة عصر “النشطاء” و”السيرة” لم تعد مهمة. والقيم صارت عبثاً. وصار “الوصول” هو الهم المُعلن الوحيد وموضع الصراع وعنوانه الصارخ. يمثل الدكتور شارل رزق نصف قرن من العمل المجرد والشجاعة الأدبية والفكر الانفتاحي وشفافية القانون. لكن كتابه يرسم خيبة كبرى مما آلت إليه تلك التجربة التي بدأها في ظل فؤاد شهاب كأصغر مدير عام في الجمهورية. ويرسم عميد الكتائبيين جوزف أبو خليل خيبات المحارب القديم، الذي تقلّب عليه الدهر، وانقلب عليه الرفاق. وأما تجربة الأباتي، فمرارة النذور والعودة المنكفئة من صخب السياسة. يربط شارل رزق بين سقوط الموارنة في الدوائر الصغيرة وحال المسيحيين في ما كان يُعرف بالمشرق. أو سائر المشرق. لكنه لا يتخلى عن النظرة العلمية وهو يدوّن شهادته على ما يمكن تسميته عصر تراجع وسقوط لبنان، كما في العنوان الشهير لادوارد غيبون عن تراجع وسقوط روما.

خسر الموارنة حربهم في معاركهم اولاً. “الحرب الأهلية” كانت في الحقيقة حرباً في ما بينهم. أقسى مشاهدها ومراحلها كانت عندما استدارت الدبابات بخراطيمها نحو شرق بيروت، وخاض الجميع معركة “السحق حتى العظم” كما في تعبير العراقي علي صالح السعدي. تساوى “بلد الاشعاع والنور” مع السحل الشائع في المنطقة. وطغت لغة عدمية وسلوك عدمي، واختبأ المفكرون إلا من يسخِّر نفسه لثقافة الموت والتزلُّم، مدعياً أنه بذلك يُنقذ لبنان.

مثل روما، بكرت شمس الموارنة، وباكراً تراجعت. كان أهل القرى اذكياء واعماقهم سَنية مثل ازماتهم. تعلموا أن يحرثوا الصخر وأن يقلّموا الهوامش. وتدلّنا الأمثال التي تركوها على عبقرية ساخرة. ويبدو أن كانون الثاني كانت تجتاحه بعد صقيع وزمهرير وليال حالكة، موجة من الدفء والشمس، فتفتر بذلك بعض الزهور والنبوت والشجر. وكان الأكثر سذاجة وجمالاً اللوز، فيخرج ببراعمه الزهرية الساحرة، لكن لا يلبث الصقيع أن يغافله من جديد ويغلظ على غصونه. وكان ذلك يحزن الحالمين فقالوا في أسى “يا لوز يا مجنون، بتزهر بكانون”.

أزهر الموارنة مبكراً. ولم يعد السؤال الجوهري “إلى أين” وإنما أين هم الآن، وما هي صورتهم؟ لقد “ظهَّرتها” في غرفة العتم، المفوضة الاوروبية السيدة ايخهورست، التي جاءت من هولندا لتقول لزعمائهم، اتفقوا. قبل أن يعدم الصقيع زهر اللوز إلى الأبد.