Site icon IMLebanon

أين ضاعت «المناصفة»؟

وهكذا، أدركت «شهرزاد» الصباح فسكتت عن الكلام الـمُباح… بسحر ساحر إختفت كلمة «مناصفة» من أفواه النواب والزعماء، وحلّ محلها كلمة «نسبية»، وكأنّ «المناصفة» مِنّة، تحتاج إلى رضى آلهة الأرض والسماء، ويجب استجداؤها مرة جديدة من الدول التي رَعت «اتفاق الطائف» ومن أصحاب النفوذ والأحجام الكبيرة، لاحقاً كرّسه الدستور، وأكّدت عليه وثيقة الوفاق الوطني.

قبل «الطائف»، كان الميثاق الوطني غير المكتوب، هو الاتفاق الذي نظّم أسُس الحكم في لبنان منذ عام 1943، وكانت نسبة النواب في البرلمان بين المسيحيين والمسلمين على قاعدة 5:6 على التوالي.

وبعد خمس عشرة سنة من الحروب والدمار وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمعوّقين، توصّل المجتمعون في الطائف إلى اتفاق على مجموعة من الإصلاحات السياسية، وكان أهمّها توزيع مقاعد مجلس النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين.

إذاً، إنّ المناصفة أو الشراكة الحقيقية بين المسيحيين والمسلمين التي لحظها «اتفاق الطائف» في المادة 24 من الدستور، هي مسألة ميثاقية تتخطّى أيّ اعتبارات أخرى ديموغرافية كانت أم سياسية، والتفريط بها يسبّب تهديداً للوحدة الوطنية، ويعرّض هذه الوحدة للاهتزار، ما يتطلّب من الجميع استدراك خطورة الاستمرار في الخلل على الصعيد البنيوي للنظام اللبناني إنطلاقاً من قانون الإنتخاب.

ماذا تعني المناصفة؟ هل هي مجرّد أعداد نسجّلها ونجمعها فنحصل على رقم 64 ؟ وهل هي مسألة حسابات وأرقام نكتبها على أوراق صفراء مهترئة تتطاير مع كل خريف؟ كلا أيها السادة، إنّ المناصفة هنا تعني إنصافاً وعدلاً، وبالفرنسية Justice، فأين العدالة في أن يصل إلى مجلس النواب نواب لا يمثّلون شعبهم، أو نواب لا تعرفهم «شعوبهم»، فضيلتهم الوحيدة أنهم يُحسنون التزلّف والتملّق والاسترهان، أو أنهم من أصحاب الثروات الكبيرة والمصالح المتشعّبة، ويُحسنون الصعود إلى البوسطة المُناسبة التي يقودها أحد شيوخ القبائل الكبار.

إنّ التمسّك بالقوانين التي تلحظ لوائح إنتخابية متعدّدة الطوائف، إن كانت وفق النظام الأكثري أو النسبي، يعني عملياً الإجهاز على الأقلية وعلى المجتمع المدني، وعلى المستقلّين وغير الحزبيين، والقضاء على كل الفئات التي لها حيثية في المجتمع.

لا يمكن لأيّ قانون أن يُدعى عادلاً ومنصفاً «إذا لم يستطع كل مواطن لبناني أن يتقدم للانتخابات من دون أن يكون تابعاً لحزب أو مجموعة». هذا ما قاله البطريرك الماروني، وهذا ما نردّده في كل مقالاتنا.

ذلك أنّ الأحزاب في مجتمعنا الطوائفي هي أحزاب طائفية، لا أحزاب برامج ومبادئ ورؤى، ولا يجمعها مع بعضها سوى المصالـح الانتخابية والسلطوية وتوزيع المغانم والمناصب على المحاسيب والأزلام وأبناء الطائفة المحظوظين.

لا يجوز أن يكون هدف قانون الانتخاب في مجتمعنا المُتعدِّد «إعطاء كل فئة حجمها الحقيقي». لأننا بذلك نكون قضَينا على المناصفة نهائياً وخالفنا الدستور والعرف والميثاق. فالأحجام معروفة سلفاً والديموغرافيا العددية واضحة جداً ولا تحتاج إلى كومبيوتر متطور أو إلى خبير فـي العلوم الإكتوارية.

نعم، النسبية تُظهر الأحجام على حقيقتها، ولكنها تقضي على التمثيل الصحيح لكلّ الأقليات وعلى المناصفة الفعلية التي أقرّها الدستور. فالدستور أيها السادة لم يتكلّم عن الأحجام، بل تكلّم عن المناصفة والعدالة والمساواة.

أنا مع النسبية الكاملة عندما يصبح لدينا أحزاب عابرة للطوائف تتنافس على برامج ومبادئ وتطلّعات وطنية، لا على مصالح مذاهبها وطموحاتها الفئوية. لا يجوز ومن غير المقبول أن ينادي البعض بالنسبية فـي بلد لا تتعدّى فيه نسبة المسيحيين 34 في المئة من شعبه، وبوجود خلل ديموغرافي يتزايد يوماً بعد يوم.

كما لا يجوز أن ينادي البعض بالمختلط بعدما لمس الجميع النتائج الكارثية لقانون «الستين» على المسيحيين. أليس المختلط بشقّه الأكثري هو نسخة طبق الأصل عن قانون «الستين» السيئ الذكر؟

ليست مهمّة قانون الانتخاب أن يجمع ويوحّد ويزرع المحبة والمواطنة في عقول الناس وقلوبهم، كما ليست مهمته توحيد الرؤى حول السيادة والسلاح الشرعي وقرار الحرب والسلم والنأي بالنفس… إنّ مهمّة قانون الانتخاب واضحة ومحدّدة في كل دساتيـر العالم، وهي التمثيل الصحيح لكل فئات الشعب بحيث لا تشعر أيّ فئة بالغبن والظلم والتهميش.

في نظام «اللوائح» الأكثري أو النسبي، لا يعود للصوت الأقلي قيمته، لا بل يضيع ويُمعَس تحت أقدام زعماء الطوائف الأكثر عدداً حين يؤلّفون لوائحهم. فالبوسطات والمحادل ليست حكراً على النظام الأكثري، بل تشمل أيضاً النظام النسبي الذي يقترحه بعض زعمائنا، وكل نظام يعتمد اللوائح الفضفاضة في قانون الإنتخاب.

لن أردّد ما قلته دوماً عن القانون الأفضل والأنسب لمجتمعنا، فأنتم تعرفونه جيداً، ولكنكم لا تريدونه، لأنكم تجهلون نتائجه، ولأنه سيقزّم حصصكم «المنفوخة» والمسروقة من حصص الطوائف الأخرى.

يقول جان جاك روسو: «رصيد الديموقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخاب فحسب، بل في وَعي الناس».

* باحث وكاتب سياسي