IMLebanon

أين المشروع الآخر للمعارضة السورية… غير “تهجير” العلويّين؟!

بمعايير اللبنانية الكيانية الأصلية التي أرساها الموارنة، والقائمة على ثنائية جبل أقلّاوي – ساحل أكثري سنّي، أي أقليات دينية تعيش كل منها في منطقة خاصة بها أو مشتركة على الجبال  المطلة على البحر وأكثرية سنية تعيش في مدن الساحل، تبعا لهذه المعايير فإن علويي سوريا هم لبنانيون فائتون. (راجع مقالي السبت 15/11/2004: تجاهل المسألة الطائفية في سوريا أم تجاهل “الطائفة”؟).

الساحل الممتد من اسكندرون إلى حيفا والمسمى الساحل السوري تاريخيا يقوم ديموغرافيا أو كان يقوم ديموغرافيا بشكل عام على ثنائية الأقلية الجبلية والأكثرية السنية المدينية مع الأرثوذكس، وهم الطائفة الأكبر عدديا بين المسيحيين في بلاد الشام، والحي اليهودي.

لهذا، من حيث الأساس في تكوين الكيان اللبناني، لا السوري، فإن العلويين كأقلية كانت مقيمة في الجبال لحظة تأسيس لبنان عام 1920 هم لبنانيون مفقودون أو فائتون (جمع فائت).

مرت مائة عام على ذلك التأسيس وتغيرت معطيات كثيرة لم تخطر في بال المؤسسين الفرنسيين وأنصارهم المسيحيين في جبل لبنان وأبرزها نزول الأقليات إلى مدن الساحل من اللاذقية الى صور وبينهما.

التغيير الثاني هو أن العلويين بعد حوالى مائة وخمسة وتسعين عاماً من تأسيس فرنسا لـ”المسألة العلوية” عبر إنشاء دولة العلويين بشكل مفاجئ ومبكر من ضواحي طرطوس الجنوبية إلى سواحل اللاذقية الشمالية (نعم فرنسا التي باشرت هذه “المسألة” وهي اليوم تتخبط بالتبرؤ منها) قد أخذوا طريق الشام الطويل منذ الأربعينات من القرن المنصرم ليصلوا إلى عاصمة الأمويّين ومركز سوريا “السايكس بيكوية” ويتمركزوا فيها محكومين فحكاما على ذلك “المرفأ الصحراوي” المختلف عن جبال ومدن الساحل والأكثر قوةً وقيادية تاريخية في التاريخ الإسلامي.

خلال هذه الرحلة لم تنسَ النخبة العسكرية لهؤلاء اللبنانيين الفائتين… لم تنسَ الالتفاف من دمشق نحو بيروت فتمّ لهم ذلك بنجاح منقطع النظير في عهد حافظ الأسد وبشار الأسد لمدة ثلاثين عاماً بينها عشرون عاما في حكم كل لبنان حتى إخراجهم القسري منه من قِبَلِ النظام الدولي مؤيَّداً بكتلة وازنة من تحالف طائفي سني ماروني درزي ونخب شيعية قليلة معارضة للحزبين الشيعيّين الرئيسيّين “حزب الله” و”أمل”. لكنهم خرجوا بعد أن كان تحوّلٌ سوسيولوجي ومذهبي عميق قد حصل واختمر على مدى عقود هو تشيّعُ العلويين السياسي من داخل منظومة الشيعية السياسية التي سيقودها نظام جديد هو النظام الديني الإيراني سيأخذ معه كل الشرق الأوسط إلى جيوبوليتيك سياسي صراعي جديد من كابول إلى الناقورة مرورا ببغداد ودمشق.

هذه الأقلية العلوية ستكون خلال التسعين عاماً الماضية قد أصبحت أكثريةً محدودةً أو شبه أكثرية في مدن اللاذقية وجبلة وبانياس وأكثريةً أوسع في طرطوس بينما شيعة لبنان الذين غيّرهم مسارُ “دولة لبنان الكبير” وفجّر وعيَهم الطائفي لأنفسهم وقوَّتَهم الأهلويةَ التحالفُ السوري-الإيراني… أما هؤلاء الشيعة اللبنانيّون وبخبرة عسكرية مُكتَسَبة في الحرب اللبنانية 1975- 1990بما فيه استحواذهم على “صدارة” الصراع مع إسرائيل بعد خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982 سيكونون قد أصبحوا أكثر اتصالا مباشرا مع العلويين وحلفائهم داخل طوائف سورية أخرى من دمشق إلى ريف حمص إلى موانئ الساحل السوري. فبالمعايير الطائفية لا ساحل الآن لسوريا من دون “العلويين”، وهناك ستكبر مسألتهم في العلاقات الدولية بالإضافة للإقليمية حين ستجد “الصحوة الوطنية” الروسية بقيادة فلاديمير بوتين الساحل السوري الضيق بين طرطوس واللاذقية مكانا وحيدا للتواجد السياسي الروسي السياسي العسكري “الآمن” على كل سواحل البحر الأبيض المتوسط الشاسعة.

تركيا تحت حكم “حزب العدالة والتنمية” دخلت الأزمة السورية حاملة راية عصب مذهبي وليس ضمن استراتيجيّة أخرى مختلفة عن الاستنفارَين الإيراني والسعودي كان ينتظرها كل المراهنين على تركيا حديثة ومتقدمة. هذا الانحراف الأردوغاني ساهم في تقوية الحس التضامني الأقلاوي العلوي (داخل تركيا أيضاً) الذي سيصطفّ معه الجزء الأكبر من مسيحيي سوريا بقيادة لا لبس فيها من كنائسهم. لا “مسألة” مسيحية في سوريا على مستوى صيغة الحكم إنما هناك مسألة محض وجودية دفاعية بالاختلاف عن الحالة العلوية التي تطرح إشكالية سياسية كبيرة في الكيان السوري ومستقبله. أو هذا ما آلت إليه أوضاع هذه الأقليات التي تتفاوت حساسيّاتُها بتفاوت خصوصيّاتها المناطقية والدينية.

قطف الضباط العلويون حصيلة القومية العربية في سوريا وقطفت إيران الخمينيّة حصيلة الحركة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي. لقد التقت بين دمشق وطهران “نهاية” مثمرة للحركة القومية العربية وبداية ضخمة وثورية للحركة الإسلامية بعد طول انكفاء على يد “الإخوان المسلمين” وقبل أن تنفرز مذهبيّاً في عقد التسعينات اللاحق. كانت الحصيلة التي ستبدأ بتشكيل نظام إقليمي جديد تقع سوريا وعلويّوها في قلبه الذي تمثّل الحربُ الأهليةُ السوريةُ في السنوات الثلاث وبضعة أشهر الأخيرة ذروةَ نبضِه القتالي ونزيفِه المأساوي الذي هجّر الملايين من كل الطوائف.

في البحر السني الشامي الذي طاف على المنطقة وخصوصا الأردن ولبنان في الحرب الأهلية السورية لم يعد ممكناً اليوم حصر الجغرافيا السياسية للطائفة العلوية بمركز حضورها التقليدي في جبال الساحل السوري لأن دمشق وحمص أصبحتا سياسيا في قلب هذه الجغرافيا، بينما الطائفة المارونية، المؤسِّسة الكيانية الأولى بين أقليّات بلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى، لا تزال ضمن جغرافيتها الجبلية التقليدية التي فقدت منها الكثير في الحرب الأهلية اللبنانيّة ومن المفتَرض أن تستعد اليوم لدور غير تقليدي في علاقات المنطقة مع النكبات التي يتعرض لها مسيحيو المحيط الإقليمي في العراق وسوريا (وفلسطين في سياق الصراع الاسرائيلي الفلسطيني).

المفارقة التي ينبغي أن لا ننساها هي أن المركز الديموغرافي الرئيسي للعلويين في المنطقة هو الأناضول التركي (التقديرات بين 12 إلى 18 مليونا والبعض، في حرب الأرقام الطائفية، يقدّرهم بأكثر من عشرين مليوناً). مثلما أراضي الجمهورية التركية هي المركز الأول ديموغرافيا للأكراد. لكن في الحالتين فإن مركز الثقل السياسي لكلٍ من الجماعتين (المتداخلتين أيضاً) هي سوريا بالنسبة للعلويّين والعراق بالنسبة للأكراد.

صار السؤال السوري الداخلي إذا بقيت حدود سوريا هي نفسها بعد انتهاء هذه المطحنة الدموية والحجرية أي نظام تعدّدي سيناسبها؟

ربما داخل المعمعة الدموية فإن ما يحصل حاليا من وعي خارجي إقليمي ودولي ضد خطر المتشدّدين الإسلاميين يضع المسار العام للأزمة في الاتجاه الصحيح ولو البطيء. لأنه إذا كانت الثورة السورية قد أنهت مستقبليا مشروع نظام استبدادي عسكري (تقوده كتلة أمنية علوية بالتحالف مع كوادر سياسية واقتصادية من مختلف الطوائف والمناطق السورية) فإن تطورات الأزمة يجب أن تنهي المشروع الوحيد للمتشدّدين في سوريا وهو تهجير العلويين ومعهم المسيحيون! من هنا أهمية أن تحسم المعارضة المدنية السورية موقفها بوضوح وبدون التباس ضد الإسلاميين المتشددين وهو ما لا يحصل إلا بشكلً محدود وغالبا إذا حصل فإن المبادرة الهجومية فيه هي للإسلاميين نتيجة ارتباك وهزال المعارضة المدنية وارتباطاتها الإقليميّة.

لفت نظري قبل فترة نقدُ “سفير” المعارضة السورية في باريس منذر ماخوس، في حديث تلفزيوني، للمواقف الطائفية داخل هذه المعارضة. إذا كان التحسّس الطائفي قد وصل إلى حد إزعاج شخصية علويّة متمرِّسة في العداء للنظام السوري فهذا يعني أنه علينا أن نراقب بدقة حالة التفسّخ التي وصلت إليها المعارضة العلمانية السورية. ولو كان النظام أقل تعسفاً في موقفه من معارضي الداخل، العلويين منهم خصوصاً، ربما لكانت أزمة تفسّخ المعارضة المدنية في الخارج أكثر تفاقماً أو على الأقل وعيها أكثر إخلاصا بضرورة البحث عن مخرج من هذا الجحيم.