Site icon IMLebanon

أين الشعب في سوريا؟

انقسم العرب حول سوريا أسوأ انقسام في تاريخهم. اختلطت في الانقسام مشاعر متضاربة، بعضها سياسي، وبعضها أخلاقي، وكثيرها مذهبي، وقليلها يتعلق بالديموقراطية الحقيقية والحريات. حلفاء النظام وأنصاره يبررون له كل ما يفعل على أساس أنه في حال حرب، وخصومه يريدون اسقاطه مهما فعل على أساس أن الفرصة مؤاتية.

بين الفريقين، ثمة حقائق لا بد من المصارحة بها:

ـ ليس كل من تظاهر في بداية الحراك كان متآمرا، فبين هؤلاء من كان فقيرا أو فلاحا او مسحوقا، وبينهم من كان ذنبه أنه فكر يوما بغير ما تفكر الدولة فسُجن طويلا، وبينهم من تعرض يوما للإهانة من قبل رجل أمن، وبينهم من ضاق ذرعا بالفساد الجديد وبطبقة الأثرياء، وبينهم من هو أشرف ممن هم في بعض مؤسسات الدولة وإداراتها ووزاراتها.

مع أني لا أؤمن كثيرا بالتقارير الغربية حول بلادنا، لأنها تكون متقنة التخطيط والأهداف حين تريد تحطيم دولة او رفع شأن دولة أخرى، الا أني أذكر ان منظمة الشفافية الدولية كانت قد وضعت سوريا في المرتبة الـ127 عالميا من أصل 180 دولة، والمرتبة الـ15 عربيا في قائمة الدول الأكثر فسادا في العام 2010. حصل ذلك فيما كانت صحيفة «لوموند» الفرنسية تتحدث عن احتمال ان تصبح سوريا من الدول الأكثر نموا في محيطها في خلال 10 سنوات لو بقيت مستقرة. ربما لذلك لم يتركوها مستقرة. نجح الرئيس بشار الأسد آنذاك في انعاش آمال شعبية عريضة، لكن طبقة من التجار والفاسدين عششت في أروقة النظام.

ـ ليس كل من تظاهر، في بداية الحراك، كان مؤمنا بالديموقراطية والحريات أو يعرف عنها الكثير، فبين هؤلاء من كان حاقدا على السلطة، وبينهم من ترعرع على أفكار إسلامية مشبوهة، وبينهم من حركته أصابع خفية وسفارات، وبينهم من دغدغته أفكــار مذهبــية، وبيـنهم «زعران» وأصحاب جنح وهاربون من وجه العدالة.

يكشف السفير الفرنسي السابق ميشال ريمبو في كتابه tempete sur le grand moyen-orient (عاصفة على الشرق الأوسط الكبير)، والذي سيصدر قريبا باللغة العربية، معلومات خطيرة وبينها التالي: «في كانون الثاني/ يناير 2014 روى وزير الدفاع الايطالي السابق السيناتور ماريو مورو انه كان يقوم بزيارة الى كردستان العراقية عام 2009، فزار ورشة بناء، وسأل عن الغاية من تشييد كل هذه المباني، فكان الجواب: انها للاجئي الحرب في سورية». اي ان ذلك حصل قبل اقل من عامين على بداية الحرب السورية. بمعنى آخر ان التخطيط للحرب بدأ قبل كل ما وصف بالربيع العربي.

القصة خطيرة ؟ عال..

اليكم أخطر منها في الكتاب نفسه، يقول ريمبو: «ان الثورة السورية قد خُطِّطت بمساعدة Syria Democracy Program (برنامج سوريا للديموقراطية) الذي تموله احدى المنظمات غير الحكومية المرتبطة بالاستخبارات الاميركية (سي آي أي)… وان العدوان الامبريالي على سورية قد تمت برمجته منذ صيف عام 2001»، ومن المهم التذكير ان دنيس روس، أحد المستشارين من المحافظين الجدد لباراك اوباما، ثم المستشار الخاص لهيلاري كلينتون، هو الذي كان خلف فكرة جعل المجلس الوطني السوري المعارض، محاوراً أول للغرب».

ما علاقة هذه المقدمة بالشعب؟

تكمن العلاقة في أن ثمة جانبا آخر للحرب لا نجده تقريبا في أي مكان. ربما نقرأه يوما في كتب التاريخ لو أنصفت. ذلك أن التاريخ لا يكتبه الا المنتصرون كما نعلم وكما أثبتت التجارب حتى الآن.

ان الفساد لبس أقنعة أخرى في خلال الحرب. يجب ان تكون الصراحة سيدة الموقف إذا ما أريد لسوريا ان تخرج من كبوتها وان تؤسس لشكل جديد ليس من السلطة وانما من ممارسة هذه السلطة حيال شعب تحمّل الكثير.

ـ لم تسقط مناطق ومدن بسهولة في السنوات الثلاث الأولى للحرب لولا فساد بعض الضباط ومسؤولين سياسيين. هؤلاء كانوا يسلمون المناطق لمن يدفع أكثر وربما يُسهِّلون قتل رفاق لهم. لا همَّ اذا كان الذي يدفع دولة او منظمة او حزبا او مجموعة إرهابية ستقتل البشر وتدمر الحجر والنفوس والأبرياء والتاريخ والحضارة. يقال إن هؤلاء معروفون وانه سيحين وقت محاسبتهم… ربما سيحين وربما لا.

ـ ليس كل حصار فُرض كانت مسوغاته أمنية. تبين أن بعض المحاصِرين كانوا يستمرون في إعاقة دخول الجيش او في انهاء الحصار، لأن ثمة مبالغ طائلة كانوا يجنونها من تهريب البضائع والسلاح.

ـ لم تكن تجارة النفط محصورة بداعش ودول معادية لسوريا. انما كان ثمة تجار يفيدون من تجارتها في الداخل تماما كما أفادوا من تجارة السلاح وأموال الخطف وصفقات الاعتقال والافراج.

ـ ليس كل من انشق عن الجيش السوري خائنا، فبعض هؤلا فرض عليهم ذلك بسبب ظروف اقامتهم او لحماية عائلاتهم، وبعضهم (ربما في الجيش الحر) لا يزالون يعملون مع الدولة سراً.

ـ ليس كل من فاز في انتخابات مجلس الشعب قبل أيام يستحق الفوز، لعب المال والتدخلات من هنا وهناك في إيصال شخص ومنع آخر. ولعبت المحسوبيات الأمنية والسياسية وغيرها أدوارا أخرى.

ـ ليست كل عائلة شهيد او جريح وجدت من يرعاها من منطلق المساواة. وليست كل العائلات التي تحصل على اعانات متساوية. فهذا أيضا قد يخضع لمشيئة المسؤول الحزبي او الأمني او العسكري.

لا مجال للمقارنة

لا مجال للمقارنة طبعا، بين ما تقدم، وبين الويلات التي يعانيها الناس في المناطق التي يسيطر عليها ارهابيون او تكفيريون او امراء حروب وغيرهم، فهناك ما عاد للإنسان أصلاً قيمة الا بما يقرره ممثل «الخليفة». وقراراته ليست لها علاقة، أصلا، بعصرنا ولا بالبشر والحاضر، ولا حتى بالتاريخ. فلا داعي للحديث عنها لأن صور الذبح والقتل والسحل وقطع الرؤوس والأيدي والجلد وغيرها تكفي للحديث عن نفسها. فرق كبير بين فساد الممارسة وبين فساد العقول والقلوب.

من الظلم أيضا أن ننشد «دولة فاضلة» في أوقات الحروب، ففي دول شبه مستقرة او مستقرة قد يكون الفساد أكبر (لبنان خير مثال). يكفي سوريا انها صمدت ولم تختف تماما أمام أعتى وأسوأ حروب القرن وحروب العالم على أرضها.

لكن يحق للمواطن السوري، أن يسأل اليوم، ما الذي سيتغير في مستقبله بعد كل تضحياته. هل ستعود الوجوه التي كانت سببا في نقمة الناس الى سابق ممارساتها؟

ان «لجنة مكافحة الفساد» التي تم تشكيلها من قبل الحكومة في العام الماضي وضعت سلسلة من الاقتراحات المهمة جدا لو نُفذت. بين تلك الاقتراحات: «تشجيع المواطنين على التعاون مع السلطات المختصة للإبلاغ والكشف عن قضايا الفساد، وحثّ وتحفيز الموظفين على التعاون في كشف الفساد أيضاً». هل لو بادر مواطن الى التشهير بفاسد في الإدارة او الامن او المؤسسات او الإعلام او غيرها، سيلقى من يحميه، ام يصبح على قارعة الطريق، هذا ان لم يختف؟

قد تنتصر الدولة السورية بشكلها الحالي في الحرب، وقد تضطر لاحداث تغييرات في النظام وتوسيع قاعدة السلطة، لكن لا خلاص فعليا لسوريا الا بأن يشعر المواطن الذي ضحى كثيرا تحت القصف والقتل والدمار وبقي في بلاده، بأن حياته ستكون أكثر كرامة مما كانت عليه في السابق. لا تنتهي الحروب بتوقف المدافع، وانما حين تخرج آثارها المدمرة من النفوس والقلوب. هذا بالضبط يحتاج الى أمل حقيقي يظهر في ممارسة الحكم وفي الإدارات وفي الإعلام وفي الحياة اليومية للناس، او لمن بقي منهم.

لماذا كتبت هذه المقالة؟

لأنني ببساطة، حين سألت الناس عبر «الفايسبوك»، هل تعتبرون ان الفساد كان سببا في خسارة بعض المناطق بسهولة؟ كانت النتيجة فعلا صادمة وتستحق القراءة. وعلى المسؤولين اليوم وليس غدا سماع نبض الناس.