Site icon IMLebanon

أين سعد وسلمان من فرنسيس وكيريل.. ولبنان؟

 

حدث تاريخي جرى في لاهافانا في 12 الجاري، هو لقاء قداسة البابا فرنسيس وغبطة بطريرك موسكو وعموم الروسيا للارثوذكس كيريل، وهو اللقاء الأول بين رأس الكنيسة الكاثوليكية وبطريرك أكبر الكنائس الارثوذكسية منذ الانفصال بين الكنيستين الشرقية والغربية عام 1054.

ورد في الإعلان المشترك في ختام هذا اللقاء حرص على وحدة المسيحيين وموقف صريح من اضطهادهم ومن الحرية الدينية، ودعوة «المجتمع الدولي للقيام بخطوات عاجلة من أجل منع استمرار إخراج المسيحيين من الشرق الاوسط»، وقلق من «تقييد حقوق المسيحيين حالياً، او حتى تمييزهم، عندما تسعى بعض القوى السياسية مدفوعة بعقيدة دنيوية غالباً ما تكون عدوانية الى دفعهم على هامش الحياة العامة».

إن هذا القلق هو الذي يساور مسيحيي لبنان، وفيه كل التوصيف للحال التي يتعرّضون لها، في حين انهم الحصن الأمنع والأقوى بوجه هجمة التهميش والتهجير التي لن تنال منهم ومن عزيمتهم وقرارهم الإبقاء على الدور والوجود مهما كانت الاثمان. هم، من دون اي شك، الحلقة الاقوى في الوجود المسيحي المنحسر في الشرق الاوسط، ذلك أن اللبنانيين المسيحيين كان لهم الدور الوازن في تأسيس الكيان واستقلال الوطن كما في النظام والحياة العامة، وإن شهد هذا الدور انتكاسات في بعض الحقبات، فأضحوا شركاء سياسيين في الوطن بجميع المعايير والمفاهيم، مناصفين بالمبدأ في المرحلة الانتقالية الراهنة، على عكس سائر المشرقيين المسيحيين، وإن فاق بعضهم اللبنانيين المسيحيين عدداً، كأقباط مصر مثلاً، غير الوازنين في الحياة المصرية العامة.

إن الدور في حياة الشعوب في المجتمعات المتنوّعة هو مرادف للوجود، حتى إذا انتفى الدور، أصبح الوجود مهدَّداً، ذلك أن الحق يُضحي منّة، قد تُعطى وقد تُحجب في أي حين، وهذا ما عانى منه تحديداً سائر المشرقيين المسيحيين ودفعوا ثمنا غاليا عنه قتلا وتشريدا وتهجيرا.

اما اذا امعنا النظر في توصيف القلق، كما ورد في الإعلان التاريخي أعلاه، لوجدنا أن حقوق اللبنانيين المسيحيين تتعرض راهناً للتقييد والتمييز، ذلك ان اكثرية ممددة لذاتها ومصادرة في مجلس النواب اللبناني، ومتواجدة أصلاً في حرمه بقانون انتخاب غير ميثاقي فرض على اللبنانيين المسيحيين عدداً وفيراً من نوابهم لا يمثلون بالأجمل الا ندرة منهم، تدفع باللبنانيين المسيحيين الى الرصيف الوطني بإنكار حقهم البديهي بالتوافق، بأغلبيتهم الساحقة، على مرشح لرئاسة الجمهورية تتوافر فيه، على الأقل، عناصر اطمئنان لهذا المكون في استظلال النظام الدستوري والسياسي الذي أرساه اتفاق الطائف، في حين يتبوأ الأقوياء في طوائفهم، بمعايير النظام الديمقراطي البرلماني، المواقع الدستورية الأخرى في سلطتي التشريع والإجراء.

إن هذه الممارسة الاقصائية تنسحب حكماً وانسياباً على الادارة والمؤسسات العامة وسائر الاسلاك، وهي ممارسة سلطوية وعدوانية بامتياز، ذلك أن الهدف منها هو فقط السلطة ومنظومة المصالح التي تتحكم بها والعابرة للطوائف.

هذه هي العقيدة الدنيوية التي تحرك قوى سياسية في وطن الأرز لتأبيد الاستيلاء على حقوق اللبنانيين المسيحيين الذي بدأ عام 1992 بانقلاب خطير على اتفاق الطائف.

إن عناوين وثيقة الوفاق الوطني كثيرة وتتمتّع بالقوة الميثاقية، إلا أنه يبقى أن عنوانَيْن عريضَيْن هما سمة هذه الوثيقة: الشراكة بين جميع المكوّنات في صناعة القرار الوطني والدولة المركزية القوية، ما من شأنه أن يستدرج طرح سؤال محوري لا يمكن تجاهل الإجابة عنه: كيف يمكن التوفيق بين الدولة المركزية القوية والشراكة الوطنية في حال شغور سدّة الرئاسة التي يُشغلها مسيحي عرفاً في النظام أو في حال تبوّأ هذه السدّة أي مسيحي لا يجد مكوّنه نفسه فيه، من دون أن ينفي ذلك ان الوطن هو رحاب الرئيس، وليس المكوّن؟

صرّحت مؤخراً المنسقة الخاصة لشؤون لبنان سيغريد كاغ أنه «ليس صحياً أن يعتاد بلد ديمقراطي على الشغور في موقع الرئاسة الذي هو موقع مهم للطائفة المسيحية، كما للبلد ككل»، وأن ثمة «عاملاً مسيحياً متصلاً بوثيقة الوفاق الوطني والقرارات المهمة التي لا تتخذ» (صحيفة «النهار» 8/2/2016). هذه هي المقاربة الواجبة بالضبط للاستحقاق الرئاسي. الميثاق أولاً وأخيراً، بدءاً من موقع الرئاسة ومروراً بقانون انتخاب عادل تتأمن معه صحة التمثيل الشعبي وفعاليته.

إن مثل هذه الأدبيات قد تصدم بعض العلمانيين، ونحن منهم، الذين يتطلّعون بشغف الى يوم تتحقق فيه الأمنية، وهي أكثر من أمنية، بل التزام دستوري ووطني منصوص عنه في المادة 95 من الدستور بإلغاء الطائفية والانتهاء من هذه المرحلة الانتقالية التي تدوم منذ 1926 وإرساء الدولة المدنية. أمنية هي، مجرد أمنية، طالما أن الصراعات الحادة في المنطقة ولبنان هي، قبل أي شيء آخر، صراعات مذهبية بأشكالها المستوردة، والمقصود توسّل الغرائز المذهبية للإطباق على شعبنا وسائر شعوب المنطقة والهيمنة عليها، بعد ضرب روافد قوتها ومنعتها، خدمة لمصالح دولية، ومصلحة إسرائيل، وهي مصالح متحدة، وذلك تحت عناوين برّاقة كالشرق الأوسط الجديد او الفوضى الخلاّقة او الربيع العربي او ما شابه من نعوت هي مشاريع نعوش.

إن النظام السياسي الذي نعيش في ظله اليوم في لبنان هو نظام كونفدرالية الطوائف لا أكثر ولا أقل، فلنُحسن تطبيقه بتصحيح المسار فوراً وإرساء عدالة التمثيل الشعبي وصحته وفعاليته وحكم الأقوياء والشجعان كل من مكوّنه، في خدمة لبنان، فيطمئن كل مكون الى يومه وغده ومصيره، حتى اذا اردنا ان نخرج يوماً من هذا النظام بأقل أضرار ممكنة، وجدنا الى ذلك سبيلاً من دون حروب ونزاعات دموية، وحافظنا على عيش واحد في وطن واحد، لن يكون قطعاً «وظيفة»، على ما كان يقول هيكل، رحمه الله.

أما التجليات الأحدث لاستهداف المكوّن المسيحي في لبنان، فتكمن في السعي الحثيث والخبيث الى تحميل أحد أهم رموزه وقادة أحزابه مسؤولية مصطنعة عن خروج مزعوم للبنان عن التضامن العربي الذي هو الممر الطبيعي للإجماع العربي، في حين أن هذا المكوّن واقع بين فكّي صراع حاد ومتفاقم ودموي ومنسحب على المنطقة وقائم بين المكونين السني والشيعي في لبنان. ألم يكن من الأجدى ان يبادر المكونان معاً الى تزكية المرشح الأقوى لهذا المكوّن لمنصب رئاسة الدولة كي يئد الفتنة القاتلة في مهدها من موقعه بدلاً من تحميل هذا المكوَّن وزرَها ظلماً وقهراً وتورية معالم الصدام؟

يحضرنا، في الخلاصة، مقتطف من مقالة للمطران جورج خضر بعنوان «الأقباط» نشرت في صحيفة «النهار» عدد 15 تشرين الاول 2011، منطلقها أن من اسس العدل ان لا يُستصغر او يُستضعف احد في قوم، لا سيما اذا كان من ملّة أخرى: «امّة الإسلام امّة مسالمة ونحن امة ورثنا من انجيلنا المحبة… وليس احد منا صاغراً عند الآخر. المساواة ركن من اركان الحرية في المساكنة الوطنية. المسلمون والمسيحيون رزقهم الله احترام الحياة. البشر جميعا هم اخوة في رؤية الرب لهم والعدل في الآخرة».

هل تتّعظ يا سعد، ومَن معك في العلن والخفاء وهل تبادرين يا أمة العرب الى رأب الصدع قبل فوات الأوان، أي قبل أن يتحول المسار السياسي الوحدوي والمستجد لدى المسيحيين اللبنانيين إلى وحدة اللون، فيقع المحظور الأدهى؟ أو هل فات الأوان حقاً بعد صدور أمر العمليات الإقليمي والدولي؟

 

(&) محامٍ، وزير سابق وعضو «تكتل التغيير والإصلاح»