في معظم الأحيان تعكس مجلة «الايكونوميست» البريطانية الرأي الغربي حول ما يحدث في أي بلد، أو مكان في العالم. قبل أسبوعين خصصت المجلة مربعاً لوصف الحالة في لبنان. شدّد مراسلها على أن اللبنانيين يتساءلون في بيوتهم ومجالسهم من دون تردد «أين الدولة؟». واستخلص أن «الخرطوشة» الأخيرة كانت أزمة الزبالة التي تراكمت في شوارع بيروت والضواحي.. لكنه لم يتوقف عند الزبالة، بل راح يعدد المشاكل والأزمات التي يتخبط منها وفيها لبنان: الفساد، انقطاع الكهرباء منذ عقود من الزمن ما شجع قيام «مافيات المولدات» المرتبطة بالسياسيين، ندرة المياه في الصيف بسبب سوء الإدارة، سرعة الانترنت الأبطأ وكلفتها الأغلى في العالم.
من السهولة بمكان إضافة الكثير من المشاكل التي تشلّ لبنان وتهدد وجوده كدولة تخدم مواطنيها، الواجب الأول لوجودها.. كما شدد قداسة البابا فرنسيس خلال زيارته كوبا على أن واجب مؤسسات الدولة او الحزب او تلك التابعة للمجتمع المدني خدمة الانسان، وليس خدمة الأيديولوجيا او المؤسسة التي وضعت في الأصل لخدمة الإنسان.
هذه القاعدة معكوسة في لبنان: الجميع في خدمة الزعيم او مَن هو في السلطة. حتى تراكم الزبالة سببه اختلاف بعض الزعامات على كيفية تقاسم الأرباح الهائلة من خدمة للمواطنين يجب ان تنفذ بالكلفة.
تصنف بيروت من المدن الأغلى في العالم، كأن اعادة اعمارها كان لخدمة الأغنياء وأصحاب الثروات فقط. حتى فنجان القهوة اصبح فوق قدرة «أبو رخوصة» التمتع به في وسط العاصمة. بيروت التي كانت اسواقها ومقاهيها ومطاعمها المتواضعة ملتقى لـ «أبو رخوصة» وغيره من الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، أصبحت اليوم للأغنياء والميسورين فحسب، ووجود «أبو رخوصة» فيها اصبح يزعج أصحاب الامتيازات والثروات في وسط العاصمة.
الزمن الذي كان وسط المدينة «معجوقاً» قد ولّى، وكأن الحرب مُولت لتبعد المواطنين العاديين من وسط العاصمة. كان وسط المدينة مركزاً لالتقاء اللبنانيين من كل فئاتهم السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية. اليوم اصبح طريق مرور من شرق المدينة الى غربها والعكس، لأن الطبقة الميسورة اقتصادياً هي التي تستطيع وحدها التسوق من وسط العاصمة تفعل ذلك بالمفرق.
واذا كان مستحيلاً لطبقة «أبو رخوصة» أن تلتقي في وسط العاصمة، فأين يجتمع المواطنون، خاصة أن عواصم المحافظات أصبحت كل منها عاصمة ومركزاً لمذهب ما؟ ربما لهذه الاسباب وغيرها، لم ينصهر اللبنانيون بعد الحرب ان كان ذلك هو الهدف، ولم يتحدوا لانهم لم يلتقوا. ليست ثمة فسحة في لبنان تجمعهم.
اليوم نرى أن الحراك الشعبي ينزل الى قلب بيروت، والمشاركين فيه يهتفون بشعارات وطنية اصلاحية، ويطالبون الدولة بتجميع الزبالة وبالكهرباء 24 ساعة وبالمياه النظيفة والمتوافرة ومحاسبة المفسدين والفاسدين. طبعاً هناك متسللون في هذا الحراك وعملاء، وكما قال البعض قد يكون ثمة مخربون وغيرهم وغيرهم. لكن اذا كانت مطالبهم وطنية وعملية وفي خدمة الانسان في لبنان، على المسؤولين ان يسمعوا جيدا وإن قام بعضهم بأعمال شغب.
للحراك الشعبي/ المدني مطالب كثيرة معظمها منصف وصحيح، خاصة مطالبتهم بتنحي الطبقة السياسية التي فشلت منذ انتهاء الحرب، اي قبل 25 سنة، في توفير الكهرباء والمياه وجمع الزبالة. وهم محقّون. وعلى الدولة التي لا يمكن ان توفر هذه المطالب الأساسية أن ترحل.
لكن، اذا اراد محركو الحراك أن ينجحوا، عليهم ان يحصروا اهدافهم بمطلب او اثنين. اقترح عليهم ان يركزوا على الزبالة وعلى قانون انتخاب نسبي يؤمن تداول السلطة ووصول بعضهم وامثالهم الى البرلمان.
ان قانون انتخاب عصرياً ومنصفاً يعطي كل لبناني الفرصة في ان يترشح للانتخابات، ومن ثم إمكان وصول شباب يحملون الى البرلمان والحكومة الأهداف الوطنية العملية للحراك، ويسعون بجهد الى تحقيقها.
نحن في حاجة الى دولة تهتم بخدمة مواطنيها. وتداول السلطة أحد أهم شروط تحقيق الهدف، والاتكال دائما على الشباب.