ليست المواجهة مع «داعش» وأخواته، ومع الإسلام السياسي، مواجهة دينية، كي يُطلب من الأكثرية الدينية وضع حد لها. المواجهة هي في الأساس سياسية واجتماعية وعسكرية. وقد أسقطت الأكثرية «السنية» الإخوان المسلمين والإسلام السياسي في مصر، كما أنها تدفعهما إلى التراجع في تونس، وما كان ذلك قد حصل لو كانت المواجهة دينية.
إن الأقليات التي تطلب بصوت مرتفع من الأزهر الشريف أو جامعة القرويين أو خادم الحرمين الشريفين معالجة الأمر تفترض أموراً كثيرة ليست صحيحة أو تفترض أن الأكثرية كلٌ موحدٌ؛ وتفترض أن فئة من المقاتلين، أو غيرها تمثلها، ولا تعلم أن هذه الأكثرية بالضبط ليست مؤسسة وليس للمؤسسة غير الموجودة من يديرها، وتفترض من جهة أخرى أن الكلام عن الأكثرية يدينها بحكم الانتماء الديني لـ«داعش» وأخواته؛ وتفترض بالمقابل أن الحديث عن «الآخر» ببربريته يبرّئ «النحن»، وأن مجرد إدانة الآخر هي تبرئة لـ«النحن».
ليس منطقياً ولا مقبولاً أن تضع الأقليات نفسها خارج المجتمع، وتتصرف على أساس أن الأمر لا يعنيها. «داعش» وأخواته عبء على الجميع، ويلاقي «أهل السنة» على أيديه أكثر من الآخرين. سواء كان ذلك صحيحاً أم لا، فإن مواجهة «داعش» لا تقتصر على فريق بعينه، وإلا عدنا إلى نقطة الصفر؛ إلى المذهبية والطائفية اللتين كانتا في أساس الأزمة.
الخطاب السائد يجعل الأقليات غارقة في وعي بائس، وعي بأنها ليست جزءاً من الأكثرية، على الأقل بأنها ليست جزءاً من المجتمع الذي تدعي «داعش» وأخواته الانتماء إليه… وعي بائس يقود إلى الاعتقاد أن «داعش» وأخواته هجوم عليها وحدها وليس على الأكثرية برمتها؛ وعلى المجتمع برمته. «داعش» في الحقيقة مرض يصيب كل المجتمع. ما دخل الإسلام السياسي بلداً إلا وأنتج فيه حرباً أهلية؛ وإذا صادف أن تولى الحكم فإن ذلك لا يكون إلا بأشد أنواع القمع عنفاً وقسوة.
مَن يعتقد أنه يمتلك الحقيقة الإلهية، يصادر الله ويعاقب الناس وكأنه هو الذات الإلهية. البربرية هي الوجه الآخر للاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة والإلهية. حدث ذلك في كل الأديان، في فترات مختلفة، بغض النظر عما تقوله الكتب المقدسة. لكل دين تفسيرات عدة، وعندما يؤخذ بتفسير واحد، فإن المنطق الديني يندفع إلى نهاياته التي تقود إلى العنف حتماً. ولكل عنف ديني أساس في كتبه المقدسة أو في ممارسات أصحابها، وما من دين بريء من العنف حتى ولو أنكر أصحابه ذلك. والذين يدعون أن «داعش» وأخواته ليسوا من الإسلام يخطئون في ذلك. لهم إسلامهم، وإسلامهم غير إسلامنا الذي تعوّدنا عليه.
أما الذين يدعون إلى التدخل الخارجي، من أجل التخلص من «داعش»، فإنهم يغفلون أن مهمة الجميع هي التساؤل والبحث للتخلص من «داعش» الكامن في كل منا. على ضرورة العمل العسكري للخلاص من «تنظيم» «داعش»، وهذا أمر كان ممكناً على يد دولنا لو كانت دولاً حقيقية ذات جيوش حقيقية وليست مجرد ميليشيات. إلا أن التدخل الخارجي سوف يزيد الطين بلّة (كما حدث في العراق). لقد كان بإمكان هذه الأنظمة خلال العقود الطويلة الماضية بناء جيوش وقيادة مجتمعات تجعل إمكانية حدوث «داعش» غير محتملة. لكن الطريق التي سلكوها كانت غير ذلك. لقد ساهموا جميعهم في قيام «داعش»، وقبلها القاعدة لأسباب تنم عن قصر النظر والتبعية؛ والسبب الأساسي هو عدم ثقة هذه الدول بجيوشها، وعدم ثقة هؤلاء وهؤلاء بشعوبهم. جميعهم ينتمون إلى دول غير شرعية، سواء منها التي قُبل طلبها في الحلف الدولي ضد الإرهاب، أو التي لم يقبل طلبها. التبعية للخارج سببها دائماً انعدام الشرعية في الداخل.
بربرية «داعش» حصيلة عقود طويلة من الاستبداد، وحصيلة إيديولوجيا وهابية أفرخت القاعدة من قبل، واشتركت مع الـ«سي. أي. أي» في الصراع الدولي، وحصيلة إيديولوجيا النفط الاستهلاكية، وحصيلة «استقرار» مزعوم قطف الجميع من ثماره، واستفاد الجميع من «فوائده وازدهاره». بربرية «داعش» حصيلة انفجار مجتمع أصبح في حالة لا تطيقها الشعوب. وشظايا انفجار كل مجتمع تذهب في كل الاتجاهات. «داعش» مسؤولية الجميع ممن استفادوا من الأوضاع التي ولدته، والآخرين الذين حرموا من ذلك.
مَن يعتبر أن الخلاص من «داعش» وأخواته هو مسؤولية غيره، يضع نفسه سلفاً خارج المجتمع. لقد انفجر هذا المجتمع العربي وصارت أكثريته أكثريات، بالأحرى أقليات. صرنا أقليات جميعنا، ولا فضل لأقلية على أخرى.