في سوريا حديثٌ عن مخاضٍ تحالفي عنيف بين سوريا وإيران. والبعض يسارع إلى القول: «إنه بداية انشقاق سيقود إلى انفجار العلاقات». وآخرون يعتقدون أنّ الرئيس السوري بشار الأسد نفسه «يقف على شفير هذا الانشقاق»… فهل هذا التصوُّر حقيقي أم فيه مبالَغة؟
تختلف طبيعة ارتباط إيران بسوريا عن طبيعة ارتباط روسيا بسوريا. فهدف إيران يتجاوز اللحظة الحالية وإبقاء الأسد في الحُكم. هو ذو بُعد عميق استراتيجياً.
فإيران تعمل على التغلغل في نسيج المجتمع السوري اجتماعياً وثقافياً ودينياً، ليس فقط في مناطق الساحل وحمص وجوارها، بل حتى في قلب دمشق، حيث الحديث عن تمويلها مشاريع تصبّ في هذا الإطار.
فالخطة الإيرانية في سوريا يُراد لها أن تعيش لعشرات السنين، لتدعيم ارتباط سوريا بالمشروع الإيراني في الشرق الأوسط. وهي وثيقة الصلة بما يُراد للعراق ولبنان وسواهما من دول المنطقة.
واستمرار الأسد في السلطة هو رأس هذا المشروع الذي نجح حتى الآن. فالأسد وسَّع سيطرته من الساحل إلى حمص وحماه وحلب، فيما سلطته في العاصمة دمشق لم تتزعزع.
في المقابل، تنظر روسيا من زاوية أخرى. فليس لها طموحات مماثلة للطموحات الإيرانية داخل المجتمع السوري، اجتماعياً وثقافياً ومذهبياً، بل طموح إلى الحفاظ على سوريا كموطئ قدم استراتيجي.
الثوابت الروسية في سوريا تتلخّص بالآتي:
1 – منع تقسيم سوريا ونشوء كيانات متطرّفة، طائفياً ومذهبياً وقومياً، لئلّا يهتزّ استقرار الاتحاد الروسي بمجموعاته المسلمة وذات الانتماءات القومية المختلفة، وأوّلها الشيشان. وما دفع تركيا إلى محالفة روسيا في الملف السوري هو مصلحتها في منع نشوء كيان كردي أو علوي أو «داعشي»، ما يهدّد وحدة تركيا.
2 – الوجود العسكري في المياه الدافئة، بحيث تكون موسكو قادرة على لعب ورقة القوة، سواءٌ في ما يتعلّق بأوكرانيا ودول البلقان أو بدول الشرق الأوسط، بالتوازن مع القوة التي تنشرها الولايات المتحدة وشريكاتها الأوروبيات والإقليميات، ولا سيما منها تركيا وإسرائيل.
3 – أن تكون لروسيا حصة في الاستثمار في سوريا وسائر دول الشرق الأوسط، سواءٌ في سوق السلاح أو في النفط والغاز في المتوسط.
4 – أن تكون سوريا أهمّ نقطة نفوذ لروسيا خارج أراضيها، بعد سقوط النقاط الأخرى، ما يتيح لها العودة إلى دورها الدولي المفقود مع سقوط الحرب الباردة والمنظومة الاشتراكية في نهاية الثمانينات من القرن الفائت.
والمدخل إلى تحصين هذه المكتسبات غير ممكن إلّا بالحفاظ على الأسد الذي يريده الرئيس فلاديمير بوتين كما كان والده الرئيس حافظ الأسد في زمن الاتحاد السوفياتي.
من مصلحة الأسد طبعاً أن يتلقّى هذا الدعم للاستمرار في مواجهة العاصفة، وأن تبقى سوريا تحت حماية قوة دولية متنامية، يقودها «الصقر» بوتين. كما من مصلحته أن يتلقّى الدعم الإيراني، بكلّ مضامينه الاجتماعية والثقافية والدينية، المتناغم معه.
فعلى مدى السنوات الأربع الأولى من الحرب في سوريا، صمد الأسد بفضل إيران و«حزب الله» وسائر القوى الرديفة. ولكن، عندما بدأ تهدَّد حضور الأسد في معقله الساحلي، دخل بوتين وأخذ الدور الأول من يد إيران.
عملياً، الهجمات المدعومة جوّاً من الروس، هي التي قادت الأسد إلى الإنجازات الكبرى، وأبرزها في حلب. ولكنّ دور «حزب الله» وإيران ما زال حيوياً على كلّ الجبهات الأخرى. ويعتبر البعض أنّ العرض العسكري الذي نفّذه «الحزب» في القصير هو رسالة للروس أيضاً، وكذلك المعارك التي تتحدّى قرار وقف النار في وادي بردى.
وهناك مَن يقول: «إنّ خيار إيران وخيار روسيا كلاهما استراتيجي. لكنّ الأوّل يعيد إنتاج الهوية السورية، فيما الآخر يتعاطى مع سوريا ككلّ، ومن الخارج، من دون أن يتدخل في تركيبتها الاجتماعية. وهنا يبدو ملحّاً أن يقول الأسد ما هي أولوياته: هل هو الخيار الإيراني أو الخيار الروسي؟
مع الدعم الذي يقدِّمه الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، لـ«حليفه» بوتين، يبدو الأسد عاجزاً عن الخروج من هذه المظلّة التي ستوفر له الحماية. وإذا كانت علاقات ترامب بإيران تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد لتتبلور، فسيكون ذلك مبرِّراً إضافياً ليكون الأسد أكثر تفاهماً مع بوتين.
لكنّ أيّ سوء تفاهم بين الأسد وطهران سيكون مكْلِفاً للأسد نفسه، لأنّ التشابك بين الطرفين قوي، لا على الجبهات في سوريا فحسب، بل في لبنان أيضاً والعراق وسواهما. ولذلك، سيكون مستبعَداً إيجاد ثغرة في العلاقات بين طهران والأسد الذي هو أحد حلفائها الإقليميين.
ولذلك، يراهن كثيرون على أنّ الأسد سيتصرف براغماتياً، فيحافظ على التوازن بين حليفيه الروسي والإيراني. فهو لن يدعو إيران إلى سحب قواها الداعمة له على الجبهات، وأساساً هو لا يستطيع أن يفعل ذلك. وطبعاً هو لن يخرج عن إدارة بوتين للمعارك الكبرى الدائرة حالياً ولن يطالبه برفع الغطاء العسكري عنه. فهو في أمسّ الحاجة إلى هذا الدعم.
ويبدو أنّ المراهنة الحقيقية هي أنّ روسيا وإيران لن تخرجا من إطار التحالف بينهما، وأنّ ذلك سيظهر بعد استهلاك وقت التسويات. وعندئذٍ سيكون سهلاً على الأسد أن يبقى في هذا التحالف، إلى أن تدخل معطيات جديدة على اللعبة.