وحده الاختصاصي في علم العباطة من افترض ويفترض للحظة، ان «الاتفاق» الأميركي الروسي عن سوريا الذي أنجز في جنيف في التاسع من الشهر الجاري هو نصّ يستحق الوصف الذي أُسبغ عليه.. إذ إنه في واقع الحال، ليس أكثر من «تفاهم» (ناقص!) يشبه نتاجات اللجان الأمنية والعسكرية في معارك الحروب الأهلية! والتي تُعنى ببعض الأمور اللوجستية ولا تتطرق إلى ما هو أكبر منها ومن واضعيها! أي التي تهتم بتدبير وقف إطلاق النار في هذا المحور وذاك! وفتح هذه الطريق أو تلك لدواعٍ إنسانية. وتنظيم عبور قوافل الإغاثة وخروج أو دخول المدنيين، ونقل الجرحى إلى المستشفيات.. الخ.
وذلك في كل حال، هو عملياً وواقعياً أقصى الممكن: ما لم يمكن الوصول إليه على مدى السنوات الخمس الماضيات العجاف، ليس ممكناً الوصول إليه في الأيام الأخيرة لإدارة مستر أوباما! لا هذه الإدارة على استعداد لوضع اتفاق فعلي ينهي هذه النكبة بطريقة مقنعة، وهذه لا بداية لها سوى تحديد «موعد» نهاية بقايا سلطة الرئيس السابق بشار الأسد! ولا هي في وارد تكبيل الإدارة اللاحقة بقيود ثابتة في خريطة متحركة! الهمّ الوحيد عند أوباما ووزير خارجيته جون كيري هو إبقاء «الستاتيكو» على ما هو عليه حتى أواخر العام الجاري، والسعي في موازاة ذلك إلى تحقيق شيء ما في الحرب المدّعاة ضد الإرهاب، وبما يفيد الحملة الرئاسية للمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، ويفخّت بمقولة ترامب الشهيرة عن السياسات الأميركية الغلط التي أنتجت «داعش»!!
وذلك أمر يريد الجانب الروسي أكثر منه بكثير، ودائماً تحت لافتة الحرب ضد الإرهاب، والتي صارت رديفاً للجملة التراثية الأثيرة القائلة بـ»كلام الحق الذي يُراد به باطل». بحيث إن موسكو تسرح في مساحة رسم أطرها وحدودها الأميركيون أنفسهم، لكنها حاولت وتحاول الاستطراد «خارج النصّ» وبناء حيثية دائمة من حالة عابرة! أي الاستفادة القصوى من الانكفاء الأميركي من أجل تثبيت واقع يفيد الأسد وبقايا سلطته، ويمنع الحلول الجذرية المتناسقة والمتناسبة مع الحقائق البشرية السورية!
يعرف الروس استحالة ذلك. ليس لأن أوباما لا يريده قبل «حسم» الحرب ضد «داعش» فقط، بل لأن استراتيجية الاستنزاف لم تبلغ مداها المطلوب حتى الآن! وهذه تعني أن تبقى «الساحة» السورية العنوان الجاذب الأول (وليس الوحيد) للحروب الفتنوية في المنطقة العربية والإسلامية ولكل المشاركين فيها، وخصوصاً منهم الذين يبحثون عن انتصارات عسكرية مستحيلة تحت راية «الولي الفقيه» وتوابعه!! عدا عن الإمعان في تكسير القيم الاسلامية الجامعة وتثبيت دمغها بالإرهاب وغربتها عن العصر!
وغريب أن يفترض نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، أن تسريب «أسرار» أحاجي جنيف بين لافروف وكيري، وأولها عدم اشتمالها على «مصير» الأسد او «المرحلة الانتقالية»، سيحرج الجانب الأميركي! أو يدفعه إلى شيء لا يريده! وكأنه غرّ مبتدئ في فنون البلف، ولا يعرف (مثلاً) أن إدارة أوباما عبرت ذلك الخط منذ زمن! وهي (تفصيلاً) لا يمكن ان تتحمل صداماً مفتوحاً وغير مسبوق بين «البنتاغون» من جهة والخارجية من جهة أخرى، فقط لإرضاء موسكو في قضية التنسيق العسكري المفتوح، ولو تحت لافتة ضرب الإرهاب إياها!
.. أو كأن بوغدانوف يقول شيئاً لا يعرفه العالم أجمع، ولا يعيش أو بالأحرى يموت السوريون بسببه منذ سنوات: إدارة أوباما أسوأ لعنة أصابت البشرية في مطالع الألفية الثالثة! ولولاها لكان هذا العالم أقل سوءاً بكثير مما هو عليه اليوم!