لمّا كانت ديموقراطية الصناديق كما يروّج لها في أدبيات الليبرالية المتطورة ودساتيرها تقوم على احترام اختلاف ميول التصويت، مهما كانت مستويات التخلف وكيفما كانت حملات الترغيب والترهيب التي تقود جمهرة العوام إلى أقلام الاقتراع. ولما كان من المتعذّر سياسياً استبدال هذ النظام الانتخابي في ظل حكم الليبرالية الطوائفية التوافقية، باعتباره يوفّر من حريات الجمهرة ويوسّع من تجيير هوياتها العصبوية العابرة للدول ولا تعوق من حرية السوق. فقد أصبح من الموضوعي الاعتراف بميول هذه الهويات والعمل على إصلاح مركّب لهذا النظام التمثيلي، واقتراح تعديل في نظام الانتخابات يراعي راهنيات الميول الطائفية من جهة، وينفتح على إصلاحات تشجع التدرج باتجاه الميول المدنية في الاجتماع والسياسة في العيش اللبناني. وقد زاد في الحاجة إلى ذلك الإصلاح المركب في النظام التمثيلي ما تراكم من سلبيات التطييف المعتمد في تقطيع الدوائر الانتخابية. ودفع شرائح واسعة من عوام الطوائف الى أن تصوّت لزعاماتها في مناطق ودوائر أكثرياتها، ما يضطر الأقليات الطائفية في المنطقة أو الدائرة ذاتها إلى أن تصوت لقوائم زعامات أكثرية من غير طائفتها في تلك الدوائر الانتخابية. وهذا ما أتاح لهذه الزعامات اختيارها لمرشحين عن هذه الأقليات في دوائرها وتعتبرهم قيادات طوائفهم أنهم خارجون عليها وأسرى اللوائح التي وفّرت لهم أصواتاً كافية لإنجاحهم. واعتُبر هؤلاء مرشحين عن أهل ذمة أقلية في دوائر أكثرية لا قرار لهم فيها. ومن هنا جاء الانفعال في اقتراح يقوم على أن تنتخب كل طائفة نوابها. لا شك في أن مثل هذا التمثيل كان يمكن أن يكون أكثر تشجيعاً لانتخاب المرشحين الأكثر تشدّداً، ولكنه سيكون التمثيل الأكثر استبعاداً للناخبين ممن ترجُح في هوياتهم المكوّنات المدنية والمواطنية، وتنتهي الانتخابات ببرلمانات أقلوية متناحرة أكثر حاجة للارتهانات الخارجية.
أخذاً بالاعتبار لواقعية الميول الدينية والسياسية للعوام اللبنانية، يمكن أن يقوم هذا الإصلاح على تعديلات في المستويات الثلاثة لنظام التمثيل النيابي والبلدي وفي طبيعة مسؤوليات المنتخَبين في نظام لامركزي مختلف:
أولاً ـ تعديلات في مستوى قاعدة نظام التمثيل: يقوم الإصلاح على توسيع نطاق التمثيل البلدي والتحوّل من بلدية القرية العاجزة أصلاً عن القيام بأدنى الواجبات التي نص عليها قانون البلديات، وهو واجب تأمين النظافة العامة في نطاقها. وهذه مهمة يجب أن تُعاد إلى مجلس البلدية لجهة جمع النفايات وفرزها ومعالجتها من قبل عَمالة محلية، كما كان عليه الحال قبل تلزيم شركة «سوكلين»، وقد انتُزع من الــبلدية ليُصبح موضوع تلزيم وصفقات وتشغيل مجحف لعمال أجانب. فمهمة تأمين النظافة العامة كأساس للصحة العامة تُعتبر مهمة تصنيعية إلى جانب كونها مهمة اجتماعية تفرض ترقياً على مستوى العائلة، وتُمارس بوعي علمي بيئي مدني وتطوعي في جانب منه. ولا يمكن أن ترتقي الجــــماعات إلى هذا المستوى إلاّ بالتكامل مع بلدية مدنية الفهم والتشكّل، وليــــس بلدية وجهاء الأجباب والأحزاب ممن تقود لا مبالاتهـــم الى تمكين أسيادهم من التطــلع الى عوائد الخصخصة.
وفي تقديرنا أن زعماء الطوائف ومفاتيحهم من الوجهاء في القرى خاصة، سيظلون حريصين على مواصلة اعتماد البلدية القروية المحدودة السكن (نصف الوحدات السكنية في لبنان أي حوالي 700 وحدة لا يزيد عدد سكانها عن ثلاثة آلاف نسمة، تراوح نسبة النزوح عنها أو الهجرة منها بين ربع وثلث المسجَّلين في قيد نفوسها). ويعود حرص الزعماء على الطابع التفتيتي لبلديات الأرياف خاصة لإبقائها عاجزة عن مساءلتهم.
إن التحول إلى اصلاح بلدي من خلال تبني اقتراح التحول الى البلدية الموسّعة (Cluster) يحتاج في البرلمان إلى ممثلين سياسيين أرقى وأبعد أفقاً وأكثر تعففاً سياسياً في إدارة المناطق والبلاد، والى تشريع يجعل حجم الناخبين في البلدية لا يقلّ عن عشرة آلاف ناخب. وفي مثل هذا الاقتراح لاعتماد البلدية المتوسّعة، ينحسر عدد البلديات في القضاء إلى حوالي 15 بلدية بدلاً من أن يراوح عددها، كما تبين احصاءات العام 2015، بين 30 و62 بلدية في 17 قضاء من أصل 26. ويمكن أن يصبح اجمالي عدد البلديات الموسعة في لبنان حوالي 375 بلدية بدلاً من ألف بلدية تتضخّم أكلاف أجهزتها المبدّدة بفعل تمشيُخ ممثليها.
هذا مع العلم أنه قد أشار اتفاق الطائف تلميحاً الى نطاق البلدية الموسعة في عبارة «ما دون القضاء» في نصوصه، التي تشير ضمناً إلى صيغة البلدية الموحّدة التي تمكن من الانتقال في الترشيح لمجالسها من معيار الوجاهة العائلية أو الحزبية في القرية إلى معيار الكفاءة المشهود لشخصية المرشح على صعيد تجمع القرى التابعة للبلدية الموسّعة. وهذا ما يضمن مستوى اعلى من الشراكة الطائفية في ادارة المجلس البلدي عن طريق مراعاة نسب الطوائف، بالإضافة الى امكانية أن ينص القانون على مبدأ تداول منصــبي الرئاسة وأمانة الســـر بين المكونات الطائفية للمجلس بغض النظر عن تفاوت نسبها، وذلك عملاً بما كانت عليه أخلاق العيش المشترك وأرسته في الكثير من القرى اللبنانية المختلطة.
ثانياً ـ تعديلات في نظام التمثيل وذلك عن طريق تأسيس مجلس القضاء الذي نص عليه اتفاق الطائف بعد تعديل في نطاقه الجغرافي البشري، لتحقيق المزيد من التدامج والتشارك والتساوي في التمثيل ليستقرّ على ما يقارب 150 ألف ناخب تقريباً.
يتمتّع مجلس القضاء في أطر اللامركزية التنموية الموسعة بهامش من الاستقلالية المالية والإدارية وبدعم لتمويل خطط تنميته يتناسب عكسياً مع مستوى نمو موارده، ومستوى تصنيف ما حظي به من عمران ونمو اقتصادي وبُنى تحتية شبكية واجتماعية وما سبّبه قربه من العاصمة أو النزوح عنه باتجاهها من حرمان.
ـ يتشكل مجلس القضاء من رؤساء البلديات الموسّعة (15 بلدية تقريباً) يشكلون هيئة تخطيط ومتابعة لأداء المصالح التابعة للوزارات.
ـ ويمثل رؤساء المصالح هيئة تنفيذية غير ناخبة في المجلس يرأسها القائمقام بصفة (Executive Manager).
ـ يُضاف إلى مجلس القضاء 5 شخصيات فاعلة أو أكثر غير ناخبة من اتحادات المهن الحرة ومن جامعيين يُدعون عندما تدعو حاجة البرامج المقرّرة لاختصاصاتهم.
ـ كما ويمكن أن يُدعى لجلسات مجلس القضاء مسؤولو منظمات غير حكومية ناشطة على مستوى المحافظة.
ـ يتم تداول منصبي رئيس وأمين سر مجلس القضاء بين الطوائف مهما كانت نسبها في إجمالي المسجلين.
ثالثاً ـ تعديلات في قمة نظام التمثيل لاعتماد قانون انتخابات برلمانية على مستويين:
1 ـ يعتمد اعتبار المحافظات دوائر انتخابية لاختيار ثلثي مقاعد البرلمان (86 مقعداً) ويُعتمَد فيها نظام التمثيل النسبي التفضيلي داخل اللوائح المفتوحة إلى ما لا يزيد عن ثلث عدد مقاعد المحافظة لاختيار ثلثي البرلمان.
2 ـ ويعتمد لبنان كدائرة واحدة يُعتمَد فيها نظام التمثيل النسبي لانتخاب ثلث مقاعد البرلمان (128/42 مثلاً) بالإضافة الى نظام التمثيل التفضيلي نفسه داخل اللوائـح وفتحها إلى حدود النسبة نفسها أي الثلث.
وغني عن البيان أن سلبيات الفصل المقصود في تمثيل ما يقارب ثلث اللبنانيين بين المناطق الجاذبة لنزوحهم إلى العاصمة والأقضية المجاورة لها من جهة، وبين مناطق قيود نفوسهم النابذة في الأرياف ولا سيما منها الأقضية الحدودية من جهة أخرى، هي سلبيات تؤدي إلى تعطيل ديموقراطية التمثيل البرلماني في بناء السلطة والإدارة المركزية وإلى تعطيل ديموقراطية التمثيل البلدي وبناء السلطة المحلية والإدارة اللامركزية، على حد سواء. وإذا ما أضفنا إلى سلبيات ذلك الفصل المقصود ما حصل ويحصل من ظروف تضغط على تمثيل المسجلين في الضواحي والعاصمة وبلدات الأقضية الثلاثة المجاورة لها، لوصل تقديرنا إلى تعطل تمثيل ما يقارب نصف اللبنانيين.
أي لامركزية يُمكن أن تحمي التعددية في لبنان؟ (1)