لم يكن ما شهدته تركيا انتصاراً لرجب طيب اردوغان بمقدار ما انّه انتصار للشعب التركي بكلّ فئاته وتوجهاته. هذا لا يمنع من طرح أسئلة خصوصاً في ظل عملية التطهير الواسعة الجارية على قدم وساق في تركيا، والتي تشمل المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية ووزارة المال والدوائر الرسمية كلّها تقريباً.
كيف سيتصرف الرئيس التركي بعد افشال المحاولة الانقلابية؟ هل يعتبر افشال الانقلاب انتصاراً له ام للتجربة التركية؟ ماذا بعد تلويحه بالعودة الى تطبيق قانون الإعدام؟ ماذا عن مستقبل العلاقات التركية ـ الاميركية التي باتت المواجهة بين اردوغان والداعية فتح الله غولن جزءاً لا يتجزّأ منها؟
كيف سينعكس الوضع التركي الجديد على الدعم الذي يحظى به الشعب السوري في ثورته على النظام العلوي وفي المواجهة التي يخوضها مع الميليشيات المذهبية التابعة لإيران، بمن فيها «حزب الله«، بمشاركة من سلاح الجو الروسي؟
هناك أسئلة كثيرة ملحّة تطرح نفسها بعدما تصدّى الشعب التركي للانقلاب العسكري، الذي كان اقرب الى تمرّد من انقلاب نظراً الى انّه لم يحظ بتأييد جماعي من كبار الضباط الذين يستطيعون التحكّم بالجيش، كل الجيش. هناك جيوب في الجيش التركي تمّردت في ما بدا انّه ردّ فعل يائس على الخطوات المتلاحقة التي قام بها اردوغان من اجل تحييد المؤسسة العسكرية وابعادها عن السياسة نهائياً. والجيش التركي مؤسسة كبيرة جدا نظراً الى ان عديده يزيد على ستمئة الف عنصر بين جندي وضابط إضافة الى انّه جيش محترف يمتلك أسلحة متطورة لعب طوال ما يزيد على أربعة عقود دور رأس الحربة لحلف شمال الأطلسي ابان الحرب الباردة.
يظهر انّ الانقلاب كان مجرّد تمرّد لمجموعة من الضباط استبقت اجتماعاً مقرّراً للمجلس العسكري الأعلى. كان مفترضاً ان يحيل المجلس على التقاعد مجموعة من نحو ثلاثمئة من كبار العسكريين. كانت لدى الرئيس التركي شكوك في ولاء هؤلاء او بانهم محسوبون على فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة والذي يعتبره اردوغان عدوه الأساسي هذه الايّام.
أراد الشعب التركي توجيه رسالة الى كلّ من يهمّه الامر فحواها ان زمن الانقلابات العسكرية ولّى الى غير رجعة. ما يمكن قوله بعد الانقلاب الفاشل الذي نفّذته مجموعة من الضباط، التي ليس معروفاً هل يختبئ خلفها ضابط كبير او اكثر، ان صفحة طويت من التاريخ التركي. هذا عائد الى انه لم يعد يوجد في البلد مجموعة عسكرية متماسكة في شكل مجلس عسكري يمثل القوّة الفعلية في تركيا. باتت هناك حياة سياسية طبيعية، الى حدّ ما، في تركيا علماً انّها تواجه تحديات كبيرة في مقدّمها المواجهة مع الإرهاب بكلّ اشكاله. كان آخر تعبير عن تلك المواجهة ما حصل قبل أسابيع قليلة في مطار إسطنبول الذي تعرّض لعمل إرهابي كبير يعكس من دون شك حال الارباك التي كانت تعاني منها حكومة اردوغان منذ اشهر عدة.
يبقى التمرّد بمثابة انذار من المؤسسة العسكرية التي ستبقى من دون شك، مهما تعرّضت لعمليات تطهير، حامية للاسس التي تقوم عليها تركيا الحديثة التي أسسها اتاتورك. صحيح ان اردوغان ما زالت تُلتقط له صور في خلفيتها صورة كبيرة لاتاتورك، لكنّ الصحيح أيضا انّ هدفه في المدى البعيد إزالة أي اثر للاتاتوركية التي هي مرادف للعلمانية، بل للدولة المدنية.
جاء الانقلاب الفاشل اثر سلسلة من المواقف الغريبة التي اتخذها اردوغان بدءاً بالتخلي عن رئيس الوزراء احمد داود اوغلو الذي كان ابرز القياديين في حزبه الحاكم وذلك بعد وضعه على الرف شخصاً آخر في الحزب هو رئيس الجمهورية السابق عبدالله غول.
فوق ذلك، أعاد اردوغان العلاقات مع إسرائيل بعد فترة طويلة من التوتر، كما مدّ الجسور مجدداً مع روسيا ومع فلاديمير بوتين بالذات. حصل كلّ ذلك، فيما صدرت تصريحات اتسمت بالغموض في شأن الوضع السوري عن رئيس الوزراء الجديد بن علي يلدريم. لم توضح هذه التصريحات هل سيطرأ تغيير على مواقف تركيا من النظام السوري في ظل ما يقال عن وساطة إيرانية وأخرى جزائرية بين تركيا وبشّار الأسد.
لدى استعراض الأسئلة المطروحة، يبدو ان على اردوغان ان يكون حذراً في تعاطيه مع القوى السياسية الأخرى في البلد ومع المؤسسة العسكرية… بدل الانطلاق المباشر في عملية تطهير واسعة تجعله في عداء كامل مع هذه المؤسسة التي لن تكون يوماً خاضعة لحزب معيّن، بل ستظل محافظة على نوع من الخصوصية في بلد مثل تركيا، وذلك بسبب الانتماء الى المؤسسة الاتاتوركية؟
الثابت ان اردوغان سيحافظ على موقفه المتحفظ حيال الإدارة الاميركية، خصوصاً في ظل وجود غولن في الولايات المتحدة من جهة ورد الفعل الاوّلي لكلّ من الرئيس أوباما ووزير الخارجية جون كيري على المحاولة الانقلابية. ظهر واضحاً ان أوباما وكيري تفاديا التنديد الفوري بالانقلاب. فضلا التريث. وهذا يعكس عدم ارتياحهما لاردوغان الذي يبدو ان انفتاحه على إسرائيل وروسيا مرتبط الى حد كبير بالموقف الأميركي منه.
ليست تركيا وحدها التي دخلت مرحلة جديدة. اردوغان نفسه في مثل هذه المرحلة التي تفرض عليه إعادة النظر في كثير من مواقفه، بما في ذلك موقفه من ثورة الشعب السوري، الذي يفرض مزيداً من الحزم والجرأة.. في وقت تبدو روسيا وايران على استعداد للذهاب بعيداً في معركة حلب، المدينة السورية الأقرب الى تركيا من أي مدينة أخرى.