من الموصل، حيث تقود الولايات المتحدة، بأركانها وطيرانها وسلاحها الحديث (وإن بأيدي العراقيين)، الحرب على «داعش» لطردها من المدينة العراقية، الى حلب في سورية، حيث تقوم روسيا بعملية لا تختلف عن ذلك كثيراً لتفريغ المدينة من سكانها، يقول المشهد السياسي في المنطقة عبارة واحدة: لا دولة في كل من العراق وسورية، على رغم جعجعة النظامين فيهما عن السيادة الوطنية والاستقلال والقرار الحر. بل وأكثر، على رغم الاسطوانة الفارغة والمكررة، لدى ولي أمر النظامين في طهران، عن «المقاومة والممانعة» ضد ما يطلق عليه تمويهاً اسم «الاستكبار العالمي».
واذا كان لـ «الاستكبار» هذا، كما قد يقال، عنوان آخر غير عنوان الدولتين العظميين اللتين تحاربان جنباً الى جنب مع «الولي الفقيه» تحت شعار الدفاع عن تابعيه في العراق وسورية، فهل من معنى بعد ذلك لـ «المقاومة والممانعة»، أو حتى لوجود دولتين مستقلتين ونظامي حكم في بغداد ودمشق؟
لكن السؤال الحقيقي في النهاية ليس هنا. انه عما بعد حرب الموصل وحلب، الذي لن يبقى كما كان قبلها في أي حال… وليس بالنسبة للبلدين المعنيين فقط، انما أساساً بالنسبة الى المنطقة كلها فضلاً عن صورتها في العالم وعلاقات القوى السياسية والاجتماعية والطائفية والعرقية فيها.
فقد يستمرّ، وإن بصورة موقتة، نظام حزب «الدعوة» بحكومة حيدر العبادي في العراق ونظام «البعث» برئاسة بشار الأسد في سورية، لكن عراقاً آخر وسورية أخرى هما حتماً ما سيجد «القائدان المظفران» (ليس مستبعداً أن يعلن العبادي والأسد بطلي تحرير) نفسيهما فيهما بعد انتهاء هذه الحرب.
أي عراق، وأية سورية، بل أية منطقة مختلفة كلياً، سيجد العالم نفسه أمامها بعد حرب تدمير كل من الموصل وحلب، ثاني أكبر مدينتين في البلدين من ناحية، وأكثرها كثافة سكانية من طائفة معينة هي الطائفة الاسلامية السنّية من ناحية ثانية؟
في تصريح لوزير الخارجية الأميركي جون كيري، بعد لقاء فيينا في شأن الحرب في حلب (للمناسبة، لم يدع اليه النظام السوري) أن تدمير المدينة في شكل كامل، على طريقة غروزني، لن ينهي الحرب لا في سورية ولا في حلب نفسها. في المقابل، قال بيان مشابه لوزارة الخارجية الروسية، بعد بدء العملية الحربية في الموصل، أن هذه المدينة مهددة بكارثة إنسانية. هل ما سبق مجرد اتهامات متبادلة بين الدولتين اللتين تخوضان الحرب هنا وهناك، أم أنه يلمح الى أمر آخر سيبرز الى العلن في المستقبل القريب أو حتى المتوسط والبعيد؟
لم يعد خافياً أن الولايات المتحدة وروسيا لا تريدان التورط في حرب ساخنة بينهما، على رغم تحريك الصواريخ والأساطيل (معظم الأسطول الروسي بات في بحار المنطقة)، لكنهما لم تسلما بعد بما يبدو تعديلاً لميزان القوى الدولي والاقليمي فيها. هل هي الحرب الباردة مجدداً، انطلاقاً من الشرق الأوسط وليس أوروبا هذه المرة، بخاصة أن المنطقة مهيأة لمختلف أنواع الحروب بالوكالة، أم أن الأمر ليس سوى مرحلة البحث بتقاسم النفوذ؟
في الوقت ذاته، لا شك في أن موسكو فلاديمير بوتين تريد، من خلال حربها في حلب، فرض «حسم عسكري» للأزمة في سورية، خصوصاً بعدما أقامت فيها ما وصف بقاعدتين «الى أجل غير مسمى»، عبر معاهدة مكتوبة مع الأسد في جانب، وبموافقة كاملة من حاميه الايراني في جانب آخر. ولهذا، فليست حرب حلب، من وجهة نظرها، إلا معركة في حرب أوسع تشمل الأراضي السورية كلها، ولو أنها تتم سياسياً وإعلامياً، كما كانت منذ بدء التدخل الروسي قبل عام، باسم الحرب على الإرهاب.
لكن أية سورية بعد سقوط حلب، كما أي عراق بعد تحرير الصومال، هما ما قد يشكلان ساحة هذه الحرب؟
لن ينتهي «داعش» في العراق، ولا طبعاً «جبهة فتح الشام» في سورية، لأن مقاتليهما (عشرات الآلاف، وفق كل التقديرات) لا بد سينتشرون في مدن وبلدات وقرى البلدين، فضلاً عن الصحارى الشاسعة فيهما وعبر الحدود الواسعة في ما بينهما، ليشكلوا ما يمكن وصفه بـ «جيوش نائمة» لن تلبث أن تعود الى القتال ضد النظامين اللذين لم يوفرا أداة للقتل والقمع والتدمير والتجويع والتهجير الا واستخدماها بحق شعبي البلدين، كما ضد من يدافع عن هذين النظامين أو يحميهما… من القوات الأميركية، الى الروسية، الى الإيرانية والميليشيات التابعة لها تحت أسماء مختلفة.
ولأنه لا همّ للولايات المتحدة وزميلاتها الأوروبيات سوى منع المقاتلين هؤلاء من الانتقال الى الغرب، كما لا همّ لتركيا سوى إقفال حدودها في وجوههم، فضلاً عن هواجس روسيا وإيران بدورهما من أمر مماثل، فليس مبالغاً فيه القول ان سورية الأخرى (بعد حرب حلب) والعراق الآخر (بعد حرب الموصل) سيكونان الساحة المفتوحة على مصراعيها للحروب المقبلة.
وعملياً، فاذا لم يكن ذلك كله كافياً ستكون ممارسات «الحشد الشعبي» وأشباهه في العراق والميليشيات الايرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية في سورية جاهزة لصب المزيد من الزيت على النار.