مثل رد فعل لا إرادي، تبدأ الدعوات إلى مراجعة الإسلام وفصل الدين عن الدولة فور ارتكاب إسلاميين هجوماً استعراضياً دموياً خصوصاً في الغرب، حتى بات أصحاب الدعوات هذه جزءاً مكوِّناً من المناخ اللاحق على أي عمل إرهابي لا يتم معناه ولا صورته إلا بأقوال عن إصلاح الإسلام.
تنطوي هذه الأقوال والدعوات على نقصين فادحين يُخرجانها من سياق أي نظر أو تفكير ذي معنى. يتجاوز النقص الأول بداهة تعدد الإسلام وتنوعه ومحاولة حصر مدارسه الفقهية والصوفية والكلامية، وتوزعه على مذاهب مختلفة، ضمن رؤية واحدة تتعامل معه ككل واحد، إلى حدود سوء فهم خلفية هذا التنوع وحمله مضامين اجتماعية وسياسية لا يستقيم أي اختزال لها بمذهب واحد.
فكل حركات الإصلاح الإسلامي ظهرت في ظروف محددة بدقة. بل إن كاتباً من أصل عربي لم يتردد في وسم الإمام محمد عبده بـ «الليبرالية» داعياً إلى تنقية الإسلام من هذه البدعة. وعلى رغم سذاجة هذه الفكرة، إلا أنها تشير إلى ارتباط الإسلام، مثل غيره من الأديان، بالبيئات المحيطة وتأثره وتأثيره بها.
أزمة الإسلام بهذا المعنى هي أزمة المجتمعات المسلمة. وتحديداً أزمة المجتمعات المسلمة العربية السنيّة التي شهدت انهيار مشاريع دولها في الأعوام الخمسين الماضية. وهذا ما سال في وصفه وتفنيده حبر كثير. عليه، لا معنى للمطالبة بإصلاح الإسلام قبل البدء بإصلاح المجتمعات التي ارتضته هوية وكفضاء معرفي وقيمي وسياسي. من هنا، تأتي الثورات العربية كتحدّ إضافي للمجتمعات وللإسلام في آن معاً. ما نشهده، من إخفاق هذه الثورات في دفع المجتمعات خطوات إلى الأمام نحو المزيد من التحرر في علاقاتها الداخلية وموقفها من العالم، من جهة، وانتقال هذا الإخفاق إلى تكريس الاندفاع الانتحاري ضد العالم على ما رأينا بين هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وهجمات 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، من جهة ثانية.
فعند القول بضرورة فصل الدين عن الدولة، يتعين السؤال أولاً: أي دين عن أي دولة؟ وما هي حالة الدولة التي ينبغي فصل الدين عنها؟
النقص الفادح الثاني يتلخص في إصرار المؤسسات الدينية على إبقاء الدين في منزلة بين الأيديولوجيا السياسية والإيمان الروحي. المنزلة الملتبسة هذه تتيح اختطاف الدين من أي جهة سياسية تحمل برنامجها الخاص وتجعل من استعادة الدين إلى مقامه الروحي صراعاً مريراً على ما نرى في التعامل مع اختطاف جماعات الإرهاب والتشدد للإسلام بحيث تبوء بالفشل كل مساعي تفسير الفارق بين الدين والأيديولوجيا. يعيد هذا الواقع إلى النقص الأول، أي فشل مشاريع بناء دول ومجتمعات في هذه البلاد.
تظهر هذه المعضلة بافتقار «الإسلام العالم»، أي ذلك الباحث في النصوص القديمة، المقدسة والأقل قداسة، عن مسوغات بقائه هو، افتقاره إلى القدرة على الفصل بين الدين والدنيا والدين والدولة، أو بالأحرى بين التاريخ وبين الإيمان. يجعل هذا الافتقار من الإسلام اليوم كعود أبدي إلى سقيفة بني ساعدة والفتنة الكبرى وواقعة الطف وسِيَر الفتوحات، في حين أن العالم الذي ينظر – بعد كل هجوم إرهابي – إلى الغارقين في هذه الإشكاليات بنفاد صبر متسائلاً عن وجه الصعوبة في الطلاق مع الماضي المتخيل.
بداهة إضافية: العالم ليس بريئاً من أزمات المسلمين والعرب، لكن على هؤلاء تقع المسؤولية الأولى في الخروج من مآزقهم، بغض النظر عمن دفعهم إليها. لذلك يصح طرح السؤال: أي إسلام هو المسؤول عما نعاني اليوم؟