كان الموعد مقدساً فأصروا على تدنيسه. إستباحوا الرمز فجعلوه مادة في سوق البيع والشراء، وسلعة عادية في سـلّة المطالب.
كانت هيبة التاريخ تفرض المواعيد، فأخضعت الهيبة لحُجّة الأقوى، لفوهة البنادق.
نشأ لبنان حراً متحرراً من القيود، فربطوه بالسلاسل وأودعوه غرف الانتظار وساقوه إلى التحقيق.
وُلـِدَ لبنان لكي يكون مختلفاً، خدمة للاختلاف في المعتقد والكلمة، فأصروا على تدجينه وفرض الرأي الواحد عليه.
كان التاريخ يسجل بولايات الرؤساء. ينتقل لبنان من عهد الى عهد. فأصبح التاريخ ألعوبة بعدما داسوا محركه الأساسي عندما داسوا الدستور.
صيف 1970 فاز الرئيس سليمان فرنجيه بأكثرية صوت واحد إزاء منافسه الياس سركيس، في عملية إنتخابية وصلت الى أعلى درجة ممكنة في الديموقراطيات، بدون مرجعيات وتدخلات. وكان الرئيس سليمان فرنجيه يعتقد أن ماضي الشخص يدل عليه. إذ لا لزوم لبرامج في بلد ليست الأحزاب العقائدية من مكوناته، وليس برنامج الرئيس هو المقرر حتى في ظل الصلاحيات السابقة. أولاً لأنه لا تبعة عليه في ممارسة صلاحياته، ولأن برنامجه يجب أن يندرج في برنامج الحكومة حتى يصبح قابلاً للتنفيذ.
الرئيس سليمان فرنجية جاء يومذاك من تكتل “الوسط” الذي تكوّن منه ومن الرئيسين صائب سلام وكامل الأسعد. والذي تميز عن “الحلف” و”النهج”. فأيده “الحلف” المؤلف من كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، مقابل النهج الشهابي الذي كان الياس سركيس ينتمي إليه. وفاز في جلسة تاريخية. وفي اليوم التالي، في طريقه الى إهدن، قال لمن كانوا معه: “الآن أصبحت رئيس جميع اللبنانيين”. فالوطن هو دائماً على حق وفق شعاره.
لكنه قبل “الوسط” جاء الرئيس سليمان فرنجية من بيئة عائلية وشمالية معروفة وطنياً، ولا لزوم لامتحانها في أي مجال من المجالات. وكان ذلك حال جميع الذين انتخبوا قبله وبعده. فمواصفات الشخص هي التي تؤهله، من ضمن مواصفات نظام الحكم اللبناني. إذ لم يمتحن أحد شارل حلو ولا كميل شمعون، ولا بالطبع بشارة الخوري وفؤاد شهاب، ولا الياس سركيس بعد ذلك.
كان الموعد مقدساً لأن لبنان كان مقدساً. وكان لبنان منغرساً في الضمائر، فلم يسمح الذين كانوا يعتبرون أنفسهم مؤتمنين عليه لأي عنصر طارئ بأن يخدشها. فالتسويات هي على السياسة وليست على الوطن.
كانت التسوية تأتي حول الشخص. والآن يبدو البعض كأنهم يطلبون تسوية حول لبنان. والفارق كبير.
بعد خمسة وأربعين عاماً على صيف 1970، يُطرح حفيد الرئيس سليمان فرنجية مرشح تسوية. والذين شجعوا هذا الترشيح – التسوية لم يسألوا عن الإتجاه السياسي ولا عن الإرتباطات والتحالفات. بل إنهم ذهبوا الى العمق. العمق الكامن في وجدان المخلصين الساعين الى الممكن من الأمور في سبيل الإنقاذ. ليس إنقاذ الرئاسة فقط، بقدر ما هو إنقاذ تجربة أصبح الكيان الذي يحتضنها معرضاً للأخطار، وسط صراعات خارجية مدمرة لا يأخذ أطرافها والمنخرطون فيها مصلحة لبنان قبل كل شيء.
فالساعون الى التسوية يعرفون أنه لا بدّ لمن يجيء إلى المركز من أن يلج باب الوفاق أولاً. لأن ذلك الباب هو الوحيد الصالح للدخول الى الرحاب اللبناني. إذ إن كل من يتطلع الى المركز أو يطمح إليه لا بدّ له من أن يردد مع الرئيس شارل حلو في جلسة قسم اليمين في 23 أيلول 1964 قوله: “إن ثقتكم الغالية التي رفعتني الى سدّة الرئاسة ملأت قلبي شعوراً بالفضل وإدراكاً للمسؤولية. وهي، إذ تجعل مني أباً لمجموع الأسرة اللبنانية وتسلخني عن صلات الدم والقربى، إنما تلاشي عندي ما تجمعه الأيام والأحوال في نفس كل بشر من رواسب التباين أو التفضيل، وتهيب بي، في جميع الظروف، الى التقيد بما يفرضه الواجب في مجالات الدفاع عن استقلال البلاد وسيادتها ودستورها وصيانة الحقوق والبر بالعهود”.
“أباً لمجموع الأسرة اللبنانية”. هذا هو الرئيس اللبناني في الأساس، وتلك هي الصفة التي تندمج مع الصلاحيات. فإذا تمكن الرئيس من أن يسلخ نفسه عما كان عليه قبل الرئاسة، عن صلات الدم والقربى، إذذاك يصبح لكل اللبنانيين. فالرؤساء الذين أنجزوا وتركوا بصمات في التاريخ، هم أولئك الذين تجردوا. تجردوا مما كانوا عليه قبل الرئاسة، وترفعوا عن المكاسب. ولذلك أعطى الدستور المعدل صفة أساسية لرئيس الجمهورية وهي رمز وحدة الوطن. إذ ليس كل شخص مؤهلاً لأن يرتفع الى مرتبة الرمز.
ولذا فإن ما نشهده من إصرار على استمرار إقفال الباب الرئاسي يتجاوز الصراعات السياسية. فالصراعات موجودة عندنا وعند سوانا. وهي ليست صراعات مارونية وفق ما يرمي إليه البعض. فهذه أيضاً معروفة ولم تقف يوماً حائلاً في وجه الحلول، على رغم إيحاءات تريد أن تحمل القادة الموارنة ومرجعيتهم مسؤولية الأزمة. وإلا كيف أقفل الباب ومن أقفله، وبخاصة عبر تحديد الممر الإلزامي إليه، وهو ما أساء في الدرجة الأولى الى هذا الممر بالذات، في محاولة جعله المرشح الوحيد المقبول، بما يشبه الخيارات المفروضة في الأنظمة الشمولية.
من الجد الى الحفيد مسافة محدودة في عمر الزمان ولكنها كبيرة في عمر الأوطان. منذ خمسة وأربعين عاماً، كان الرئيس سليمان فرنجية يغادر بيروت الى إهدن، في اليوم التالي لانتخابه، ليبدأ رحلته التاريخية من البوابة الإهدنية التي أحبها قبل أي شيء آخر. فجعل بيته في إهدن مقراً صيفياً للرئاسة، وتمنى أن ينام اللبنانيون وأبواب بيوتهم مفتوحة.
ماذا بقي من ذلك الزمن في يومنا الحالي؟ بالطبع إن الرئيس الإستقلالي الخامس حضر بداية الحروب، ليكمل المعاناة فيها خلفه الياس سركيس، في فصول المحن اللبنانية التي لم ترحمه.
ليست الدائرة ضيقة، بخلاف ما يعتقد البعض في حصر الترشيح. فالآفاق رحبة مارونياً ولبنانياً. ولبنان خارج أي أسر وأي قيد. فالرئيس هو الرمز. وهو طليق من سلة التسويات التي دُفـِعَ إليها لبنان مرة في الدوحة، لظرف استثنائي طارئ، وتعلم التجربة حتى لا يقع فيها ثانية.