بدأ يسيطر على لبنان جو من الاسترخاء غير مسبوق رلا في الحالات النادرة، وكأن ليس في البلد أزمة تأليف الحكومة العتيدة، التي هي الأولى بعد الانتخابات النيابية، كما وكأن ليس في البلد أزمات اقتصادية واجتماعية ومعيشية وتربوية بل ووطنية.. والمعنيون بصناعة القرار، كل يغني على ليلاه، وكأن البلد في أفضل حال؟! وهم مطمئنون الى ان الاستقرار الامني ثابت، ومادام كذلك، فالدنيا «بألف خير»..
أياً كانت القراءات لواقع حال البلد، فإن أحداً لا يستطيع أن يقفز فوق ما جرى وما يجري وما يمكن ان يجري، كما ان أحداً لا يستطيع ان يقفز فوق جملة من الوقائع والحقائق التي بدأت بصماتها جلية على خارطة الصراعات والتجاذبات السياسية والاعلامية السائدة، بشأن تشكيل الحكومة، وما تسببه هذه الصراعات والتجاذبات من قلق واهتزازات في سائر القطاعات.. خصوصاً وان السجالات والمناكفات والنقاشات المسيطرة بشأن الحصص وتوزيع الحقائب والاحجام لم تصل بعد الى حيث يجب ان تصل، ويطوي لبنان صفحة أزمة التشكيل ليفتح صفحة المعالجات.. خصوصاً أكثر، ان الحكومة العتيدة ستضم – مبدئياً – جميع المكونات السياسية المتنازعة، من دون أي خوف من ان تكون السلطة التنفيذية ساحة لتنازع القوى وصراع المصالح الخصوصية والضيقة.. وهذا ما يقلق اللبنانيين على وجه العموم..
ومن دون الخوض في عمليات المساءلة والمحاسبة وتحديد المسؤوليات، فإن اللافت انصراف العديد من المعنيين الى الافادة من هذه الاجواء، ويأخذون اجازات الاسترخاء والاستجمام خارج لبنان، بهدف الحصول على المزيد من «الوقت الضائع» أملين ان يؤسس ذلك لمرحلة جديدة «تعجن» فيها خبز الحكومة العتيدة.. وهم ماضون في سياسة «الدجاجة قبل البيضة أم البيضة قبل الدجاجة..»؟!
من أسف أن يكون البعض غسل يديه من هذه المسؤولية.. ورماها على آخرين لا يقلون مسؤولية – عما حصل وما يمكن ان يحصل.. وإن كان الجميع مطمئنون الى ان «كلمة السر» ستأتي عاجلاً ام آجلاً، فيرفع الحجز عن مشروع الحكومة بغطاء خارجي..
أياً كانت الظروف والمعطيات، فإن قراءة دقيقة لما حصل ويحصل، تؤكد بشبه اجماع على ان دوائر صانعي القرار مازالوا هم اياهم وان اختلفوا وتقاتلوا.. من دون ان يتعلم هؤلاء دروس الماضي، حيث دفع اللبنانيون الغالي من لحومهم ودمائهم وجنى أعمارهم، ويعودون الى مبدأ «الاعتماد على الذات» في صناعة الحلول والقرارات..
المفارقة ان الجميع يقر بأنه في لحظة تشكيل الحكومة تبرز عقبات وعقد وشروط ومطالب، حيث كل فريق يحاول الافادة من هذه «الفرصة»، مطالباً بزيادة الحصص وتنوع الحقائب.. لتبدأ مسيرة الدوران في الحلقات المفرغة.. تحت شعار «ان الحكومة سوف تشكل في أسرع وقت ممكن» لا لشيء سوى للحفاظ على البلد واستقراره وأمنه..؟!
«حكومة تصريف الأعمال» قائمة.. وكل ما هو متصل بحركة تشكيل الحكومة الجديدة، المفترض ان لا تستثني أحداً، معلق على أعمدة انتظار عودة الطباخين لتبدأ مسيرة مشاورات جديدة، غير مضمونة النتائج، مع استمرار التباينات العميقة بين أكثر من طرف من الاطراف المتوقع ان تتشكل منهم الحكومة.. وكل فريق يسعى جاهداً لتقديم حجمه على أنه حجم وازن ويستحق أكثر مما يطلب في ضوء ما آلت اليه نتائج الانتخابات.. فيكون يضحي من دون ثمن. ويستحق مع هذه التضحية «الشكر» و»الثناء» و»التنظيم» و»التكبير» على هذه التضحية.. متناسين ان الجميع بات على قناعة بأن ما يجري هو خارج ملعب التشكيل، ولا بد من خفض منسوب التوتر العالي في المسجالات، على رغم «ان أيا من اللاعبين على مسرح التأليف لم يتراجع عن مطالبه ولم يتنازل عن بعض شروطه العويصة، ولم يتقدم خطوة واحدة الى الامام باتجاه الآخرين للالتقاء عند الجوامع المشتركة»..
من أسف أن المشهد اللبناني اليوم يطغى عليه تجاذب أطراف دولية واقليمية، عبر رموز ومرجعيات، هي في معظمها لم تكن بعيدة عن الصراعات و»الحروب الداخلية» السابقة التي فاقت اكلافها البشرية والمادية طاقة لبنان وجعلته ينوء تحت ديون واعباء تحفر في حاضره وفي مستقبله.. ولعله من دواعي الأسف أكثر وأكثر، ان ينضم البعض الى مشهد تصفية حسابات تحفر عميقا في حالة الاصطفافات الطائفية والمذهبية..
يبقى السؤال أي لبنان يريد هؤلاء؟ والواقع المؤلم محكوم برغبات لم تعد دفينة، وقد ظهرت الى العلن لإعادة انتاج لبنان طائفي – مذهبي، تتقاسمه وتتوزعه قوى تستفيد من هذا «التغيير الطارئ» على قواعد اللعبة الاقليمية والدولية؟!
الكرة في ملعب الافرقاء اللبنانيين، كل بحجم وزنه وقدراته، والتحدي الأكبر، هو في كيف سيرتقي هؤلاء الى المسؤولية الوطنية لإطلاق حالة من الحوار، بعيداً عن لغة «شد العضلات» ولغة العنف والاستقواء والالغاء، بهدف صياغة لبنان الجديد على قاعدة السيادة والحرية والاستقلال والالتزامات العربية حيث «ليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا سوى الصهاينة ومن يشد ازرهم..