Site icon IMLebanon

أياً من النظامين نختار؟

سبق أن قلنا (وقال سوانا) ان من أهم انجازات 14 آذار هو تحرير الشارع بعدما كان محرماً على اللبنانيين ما يقرب أربعة عقود، في عهد الوصايات وخصوصاً الوصاية السورية. وتحريره يعني استرداد دوره كمساحة للحركة الحرة وللتظاهر والاحتجاج كتجسيد للديموقراطية المباشرة أو للفعل السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي «الظاهر» من دون خوف أو رعب أو قمع أو اعتقال.

ومن خلال ذلك، شهدنا تظاهرات نقابية وسياسية وفنية كثيرة ما كان لها أن تخرج إلى العلن، والهواء الطلق لولا تفلت الشارع من قيود الدكتاتورية. لكن الشارع لمن يليق بدوره ويجّل أمكنته فتكون التحركات على مستوى الخطاب المطروح أي السلمي، والديموقراطي. ونظن ان خروج الشارع من هيمنة الميليشيات السابقة واللاحقة كان ضربة لكل الذين تواطأوا مع الوصاية السورية لإبقائه سجناً مفتوحاً. 

ولهذا يحاولون منذ مدة بدأب تشويه صورته ودوره وتلويث مساحته «لإلغائه» أو لإعادة مصادرته أو لتحريمه من جديد.

وهذا ما فعله «حزب الله» وبعض حلفائه: فـ 7 أيار الانقلابي، العنفي، الفاشي، الاحتلالي الذي رعاه ونظمه الحزب كأنما كان أول ضربة توجه إلى تلك الأمكنة التي شهدت التحركات الشعبية والتظاهرات التي اسقطت الوصاية السورية. وبعد غزوة 7 أيار كانت عراضة القمصان السود بتنسيق بين النظام البعثي وايران (أي حزب الله) والتيار العوني. لكن ارادة اللبنانيين كانت أقوى وأمضى، وأكثر اصراراً خصوصاً عندما تدفقت الناس في تظاهرات هيئة التنسيق للتعبير عن مطالبها النقابية. 

… واليوم ها هي التظاهرات تعم وسط مدينة بيروت احتجاجاً على ما آلت اليه مسألة النفايات. بدأت المطالب بالنفايات ثم تشعبت وتنوعت شعاراتها إلى حد المطالبة بإسقاط النظام والحكومة وحل مجلس النواب… كبُر «الطموح« وتحولت ملامحه من مسألة اجتماعية إلى مسألة سياسية دقيقة؛ فإلى تغييرية ومن قال إنه لا يحق للمتظاهرين المطالبة بإسقاط هذا النظام؟ لكن المهم من يطرح هذا المطلب؟

لكن، وتجاوزاً لما حدث من عمليات اقتحام وتخريب وتدمير ممتلكات واحراق محال ارتكبتها سرايا مقاومة حزب سليماني نريد أن نقول لهؤلاء المطالبين بتغيير النظام انه بات في لبنان نظامان لا نظام واحد وحكومتان (أو أكثر) لا حكومة واحدة، وجيشان لا جيش واحد وحدودان لا حدود واحدة ودولتان لا دولة واحدة… فعليهم إذاً ان يختاروا أي نظام أو حكومة، أو دولة، يريدون أن يسقطوا.

الثنائيات

وهنا صلب الموضوع. دويلة حزب ايران أقوى من الدولة، و»جيشها» أقوى من الجيش اللبناني وتخريبه على الحكومة أقوى من وسائل الحكومة. فهناك «حكومة» الحزب تريد ان تعطل الحكومة ودورها. اما حدود الحزب فهي الحدود الايرانية والسورية لا الحدود اللبنانية. بمعنى آخر هناك نظام «يُعلَن» على انقاض النظام اللبناني بكانتوناته، وقوانينه وسجونه ومؤسساته وسياساته وعقيدته وانتماءاته. فحزب الله مرجعيته إيران لا الشعب اللبناني. وكانتونه محكوم بالمذهبية لا بالتعددية. وقرار الحرب والسلم في أيدي الملالي الفارسية لا في أيدي اللبنانيين. دويلة لا تعترف لا بالدستور ولا بالميثاق ولا بالقضاء ولا بمجلس النواب (عون يعتبر المجلس النيابي غير شرعي) ولا برئاسة الجمهورية. فعند أهل الكانتون رئيسهم ومرشدهم يستمد شرعيته من الولي الفقيه.. انه الانقلاب بكل قسماته!

ولهذا، يمكن القول بمرارة، انه بات عندنا لبنانان لا لبنان واحد، وعلى كل المستويات. «لبنان» لا يُقر «بلبنان» وطناً أو وطناً نهائياً، بل كمرحلة في مشروع اعمّ يلتقي ما دأب الصهاينة على فعله، (إسرائيل الكبرى) مقابل «الهلال الصهيوني المذهبي». بل يمكن القول إن هناك «تقسيما« يعمقه الحزب شبيهاً بالتقسيمات التي حققتها الميليشيات السابقة، في كانتوناتها المذهبية.

نظامان لا نظام واحد

وهنا بالذات نطرح السؤال على الذي يطالبون باسقاط النظام ان يحددوا لنا، أيهما يختارون؟ لأن هذا الالتباس «العفوي» أو المقصود هو الذي من شأنه تحديد مسارات التظاهرات. وكلنا يعلم ان غزوة 7 أيار الشارونية ادت إلى مؤتمر الدوحة كما ادت حروب الميليشيات السابقة إلى مؤتمر الطائف. كأي مشروع جديد يمكن ان تستبطن هذه التظاهرات اذا ركبها حزب الله وفلول النظام السوري؟ مثل «المثالثة» او تقسيم البلاد إلى عدة كونفدراليات أو جعل لبنان في دائرة انتخابية واحدة، أو تغيير هوية الجمهورية ورئاستها، أو تكريس وتشريع كانتونات الحزب؟ كل ذلك جاهز في بال جماعة الحزب: فتسفيه الحكومة وتعطيل كل المؤسسات وافساد كل العلاقات وضرب الوشائج الوطنية وتعميق الظواهر المذهبية ما هي سوى مقدمات لمشروع آخر من شأنه تغيير هوية لبنان وكيانه ووحدته وتاريخه وانتماءاته ومستقبله.

بالطبع، ليس حزب الله وحده يسعى إلى قلب البنية الاساسية للجمهورية، بل سبقه كثيرون على امتداد القرن العشرين، من الحزب الشيوعي، إلى منظمة العمل الشيوعي فإلى التنظيمات والحركات القومية، الاشتراكية، فإلى الحزب القومي السوري الاجتماعي (انقلابه في الستينات) ونعرف أن بعض هؤلاء حاولوا ركوب موجة المقاومة الفلسطينية (نتذكر الحركة الوطنية) وسلاحها وعديدها لتغيير النظام: أي بالسلاح والعنف وهزم الآخر اي الميليشيات المسلحة التي لجأت إلى سوريا فإلى اسرائيل للحفاظ على هذا النظام. سلاح يقرقع سلاحاً، ونتيجته إفراز عميق طائفي وكانتونات وادارات محلية أدارتها ميليشيات من هنا وأخرى من هناك. وكان الخراب العميم والقتل على الهوية والمجازر والتهجير واحتلال المنازل. ونهب خيرات البلد والتحكم بالبلاد والعباد، إذاً عرف لبنان ما معنى تدمير الدولة والنظام والمؤسسات على أيدي المرتبطين بالقوى الخارجية، العربية، منها والاسرائيلية. ولم تكن تلك المحاولات التي شهدنا نتائجها على الأرض سوى انقلابات على الوضع القائم وانقلابات مضادة. من هنا نقول ان انتصار القوى الوطنية آنئذ كان يعني انتصار من كان يرعاها، من الفصائل الفلسطينية وصولاً إلى القذافي وصدام حسين. فالمردود الأخير «خارجي» كذلك كان انتصار القوى «اللبنانية» يعني إما انتصاراً للنظام السوري أو اسرائيل: وما غزوة هذه الأخيرة للبنان سوى تعبير عن هذه الحقيقة.

[ الشيوعيون

فالشيوعيون الماركسيون اللينينيون ومنظمة العمل الشيوعي ذات الخلفية الماوية والحزب التقدمي الاشتراكي يضاف إلى الرعاية «العربية» (المعادية لنظام آل الاسد) ركبوا حرباً طائفية وساهموا تشريعها وعملوا على تبريرها بأدوات «فكرية» علمانية إلى حد وصولهم إلى طرح نظرية عنصرية سموها «الطبقة- الطائفة» لينجزوا مشروعهم الانقلابي على غرار «الثورات الانقلابية العربية» أو الاشتراكية. ونظن أن غزوة إسرائيل، ودخول الجيش السوري إلى لبنان، ساهما في ضرب هذا المشروع، عندما كان لهما تغيير المعادلة القائمة بين قوى الحركة الوطنية (دعم عرفاتي)، وبين القوى الميليشيوية والقومية.

كل ذلك تم بالقوة، والاحتلالات، والقمع، والاغتيالات (اغتيال كمال جنبلاط) لكن كان ذلك الزمن زمن «الثورات» والتغييرات «الجذرية» وازدهار الأحزاب اليمينية منها واليسارية والقومية، ومعظمها انخرط في الظواهر الطائفية ليكون جزءاً منها. والنتيجة الغربية أنه بعد «ختام» حرب 1975، اكتشفنا أن كل الذين حملوا السلاح في حروب الآخرين على لبنان من أحزاب وتنظيمات قد أصيبت في صميم وجودها. كأنما هو إعلان «نهاية حقبة الأحزاب»: تقلص الحزب الشيوعي، وانتهت منظمة العمل الشيوعي، وتحول الحزب الاشتراكي الذي استطاع اختراق البيئات كلها وصولاً إلى العالم العربي، إلى مجرد حزب «محلي«، وكذلك «الكتائب« و«القوات«، والفصائل الناصرية لا سيما «المرابطون»… طحنت الحروب المذهبية كل الأحزاب العلمانية والقومية واليسارية واليمينية. إنها ظاهرة يجب دراستها جيداً، لأنها قد تكون تفسيراً لما يجري اليوم.

ما بعد الأحزاب!

وهنا بالذات يمكن الكلام على مرحلة ما بعد الأحزاب إثر دخول الوصاية السورية لبنان، وتصفيتها المقاومة الفلسطينية في أربع محطات (تدمير مخيم تل الزعتر، غزوة إسرائيل وانسحاب القوات الفلسطينية من الجنوب، حرب المخيمات في بيروت، ثم حروب الشمال بمعية أحمد جبريل…). انتصر الانقلاب السوري على الانقلابات الأخرى، وفرض معادلة جديدة، تعميق التقسيم المعلن إلى تقسيم غير معلن. نفي الزعامات السنية (صائب سلام، ابراهيم قليلات…) والمارونية (ريمون إده، أمين الجميل وبعدها ميشال عون…) لتكون البدائل من طبيعة أخرى، أي المراهنة على الشيعية (بعد خطف الإمام موسى الصدر) لكن هذه المرة الوافدة من إيران. وبعد الحلف الذي عقد بين نظام آل الأسد والملالي، أنشئ «حزب الله« باتفاق بين حافظ الأسد ورفسنجاني، ليكون بديلاً مذهبياً من المقاومة العلمانية في الجنوب (المقاومة الوطنية).

عصر جديد لاحت تقاسيمه. انتقل قرار الحرب والسلم من أيدي المقاومة الفلسطينية في الجنوب، إلى أيدي النظامين السوري والإيراني. وهنا تفسير لبداية صعود «حزب الله« كقوة أحادية تمثل الشيعية بعد حرب الإلغاء التي خاضها ضد حركة أمل في إقليم التفاح والضواحي والتي تشبه حربي «الإلغاء« بين «الكتائب» «القوات« و«الأحرار« ومن ثم بين التيار العوني والقوات…

انقلاب قارع انقلاباً! لا ثورة شعبية. ولا أفكار. ولا أحزاب. طبقة أخرى قديمة جديدة مرتبطة بالمرجعيتين الخارجيتين تحكمت بلبنان، قمعت كل تحرك، حرمت الشارع، واغتالت من اغتالت، إنها الوصاية السورية المطلقة. لكن بعد تحرير الجنوب، عاد «حزب الله« مظفراً… حرر الجنوب وسلّمه إلى سوريا وإيران. وهنا بالذات بدأ المشروع الإيراني بالاستيلاء على هذا البلد. جاء الحزب بأجندة انقلابية، استراتيجيتها «النهائية» تحويل لبنان كله كانتوناً، مضموماً إلى الولايات الفارسية.

ومنذ ذلك الحين، بدأ الحزب (ووراءه دولتان) بتدمير الدولة، واستخدام مؤسساتها (الجيش، الأمن العام…) لضربها وتقزيمها وتعطيلها، لتكون البدائل جاهزة. ومنذئذ بات عندنا دولتان رسمية وميليشيوية، وجيشان: نظامي وحزبي وحدودان: دولية وإيرانية سورية…

إن هذه العودة إلى الوراء تفسّر كل ما يجري في لبنان اليوم: من تعطيل مجلس النواب إلى الحكومة، إلى تسفيه الجيش، وأبلسة القوى الأمنية، وكل ما هو شرعي: إنه انقلاب مسلح شامل على النظام اللبناني من تعددية مذهبية إلى أحادية، ومن ميثاق وطني إلى ميثاق حزبي… إلخ.

على هذا الأساس، نرى أن الذين يطالبون، وفي هذه الظروف بالذات، بتغيير النظام، تصب مطالبتهم في مصلحة المنحى الانقلابي عند «حزب الله«. فهو القوة الوحيدة القادرة على الاستفادة من أي تغيير يصيب البنى أو الدولة. وكما ركبت الأحزاب اليسارية والقومية (العلمانية) موجة الطائفية للوصول إلى الحكم ها هو «حزب الله« يلعب اللعبة ذاتها: مجاراة المطالبين بتغيير النظام لمصادرة نتائجها (وهذا ما حصل في الربيع العربي عندما انطلقت التظاهرات السلمية للتغيير فسرقها الاخوان المسلمون في مصر، والداعشية في سوريا، والقوى المتطرفة في ليبيا، وإيران في اليمن..). اللعبة ذاتها يلعبها حزب الله اليوم. واللافت أننا لحظنا أن بين المتظاهرين، الذين نقلوا وجهة التحركات من مطلب النفايات إلى تغيير النظام، هم إما من الشبان المتحمسين أو من عناصر من الحزب الشيوعي اللبناني. كأن هذا الحزب لم يتعلم شيئاً من دروس الماضي، بل كأنه الصوت الآخر لحزب الله، أو البساط المفروش لاستثماره هذه التحركات، لتخريب البلد، وتعميق المذهبية وإعلان هويته الانقلابية. ولحظنا أيضاً مشاركين في التظاهرة «ينتمون» أصلاً إلى الوصايتين، يرددون: حل مجلس النواب، ونزع شرعية الحكومة، أو تبديل النظام. إنهم الطابور الخامس بين طوابير من أخذتهم الحمية، وبين من يخططون لقلب الأوضاع رأساً على عقب.. انطلاقاً من الفوضى، والتخريب والتهديد بالهجوم على السرايا (سبق أن فعلها حزب سليماني مع حكومة السنيورة)، أي استعادة سيناريو 7 أيار بشعارات حاسمة وكبيرة استغلالاً لمشاعر الناس وهمومهم وجروحهم… وتحرير الشارع!

أولويات

ونظن أن الذين يطالبون بتغيير النظام في هذا الوقت كأمثال الذين طرحوا تغييره أثناء هيمنة الميليشيات السابقة تجاوزوا «الأولويات» التي لا يمكن تجاوزها في أي عملية تغيير: 1) إسقاط نظام السلاح وهيمنته الخارجية، إسقاط الكانتون المذهبي الذي بات ساحة لتخريب المجتمعات وبؤرة للجوء القتلة، 2) الاستفادة من ثورة الأرز في أدواتها وشعاراتها، الانفصال عن كل قوة فاشية أو تقسيمية، 3) تكريس الحريات التي استرجعت من قبل الناس، 4) تقديم حلول لمخارج الأزمات التي تهدد لبنان كله، 5) تعزيز النواحي الديموقراطية (النسبية) في الوضع القائم، 6) التصدي الجماعي السلمي لسرايات المقاومة النازية، والتي ستعمل على تشويه كل ما يمت إلى المجتمع المدني وهيئاته ومطالبه لتسحقها في طواحينها المذهبية، 7) وضع أفكار واضحة وعلمية وتاريخية لمعالم النظام المنشود لكي لا يكون ذلك مجرد شعار يستغله أهل الوصايات ومرتزقتها للتخريب، أو لأهداف سياسية مباشرة، 8) تحديد المطالب بأولوياتها: من سياسية، إلى نقابية، فإلى اجتماعية، فإلى اقتصادية، والعمل بوسائل مدروسة لمعالجتها، 9) محاولة ضرب الثنائية المفروضة بالسلاح: دولتان وجيشان وحكومتان، ورئيس جمهورية وقبالته مرشد، وحدودان، والنضال ضد هيمنة الكانتون، وتعطيله لا تعطيل ما تبقى من إرث الجمهورية!

أما الديناصورات الحزبية اليسارية وغيرها التي تطل كالغربان في التظاهرات، فلا تعتبروها سوى مدسوسة، لأنها جزء من الخراب، وجزء من الدكتاتوريات العربية البائدة، وجزء من الارتهان الخارجي… المسؤول أولاً وأخيراً عن كل ما تعرض له لبنان منذ عقود!